ليس قليلاً عدد من كانوا يموتون يومياً في مختلف بلدان العالم قبل انتشار فيروس كورونا أو ما سبقه من فيروسات قاتلة، لأسباب شتى بينها: التقدّم في العمر والأمراض المزمنة والسرطانات وما إليها. ورغم كثرة من ماتوا ولا يزالون يموتون كل يوم منذ أن أعلن عن اكتشاف كورونا، لكنه لا يزيد عن عدد حالات الوفاة قبله، في مختلف البلدان، خاصة منها كثيرة السكان، أو التي تعاني من الفقر وتدّني الخدمات الطبية. فضلاً عن ضحايا الحروب المدمرة، أهلية كانت أو بين الدول، وضحايا المجاعات والقحط والكوارث الطبيعية كالفيضانات والحرائق وغيرها، ومن المحرومين من العناية الصحية الضروية، ومن ظروف المعيشة اللائقة، ومتطلبات الحياة الكريمة.
ليست الغاية التقليل من خطر “كورونا” الذي يجتاح البلدان، بلدًا وراء آخر، ويستنفر العالم كله لمواجهته، وتعمل المختبرات ليل نهار للوصول إلى لقاح يمنعه وعلاجات تشفي منه، ولكن الماكنة الإعلامية العالمية، التي تغطي أخبار الجائحة في كل مكان، وتقدّم بيانات منتظمة عن أعداد المصابين والمتوفين جراءها، تكاد تصمت عن كل المشاكل الأخرى التي تعاني منها البشرية، بسبب صور التمييز الطبقي والعرقي والديني وغيرها، وبسبب جشع الرأسمال خاصة في صورته النيوليبرالية.
ما لا يحظى بالتغطية الكافية هو ما كشف عنه تفشي “كورونا” من عاهات تنخر عالم البشر. بعضها ظاهر لا يتوارى أبداً، وبعضها كامن ينتظر الفرصة فقط ليطل برأسه، كما لا يجري الوقوف عند ما أظهره تفشي الفيروس من “هشاشة” العولمة، رغم أنها، في وجهها الاقتصادي خاصة، بلغت مديات واسعة، ولكنها اليوم تتعرض لاختبار حقيقي حول مدى صلابتها وقدرتها على تحدي الصعاب الماثلة، لا في تحقيق الأرباح والمنافع لأساطين المال والسلطة، وإنما في تحقيق حياة كريمة للبشر لن تتأمن بالتقسيم الدولي الراهن للعمل، كأن الجائحة سلطت الضوء على ما لم يكن بحاجة لبرهان.
حتى الآن يجري الحديث عن فقدان الأسواق العالمية لمئات المليارات من الدولارات، وهبوط التعاملات في البورصات، وانكماش حركة السياحة والسفر. وبمقدار ما أظهر “كورونا” من جهة إلى أي مقدار هو العالم قرية كونية بالفعل، فإنه أظهر أيضًا أن هذه “الكونية” ترتد اليوم إلى أكثر صور الأنانية والانغلاق على الذات، وإزدراء المعاناة المشتركة للبشر على تعدد انتماءاتهم ولغاتهم ومعتقداتهم.