ترجمة وإعداد: هشام عقيل
لماركس إنفجار أخير في “ملاحظات حول فاغنر” (1883) التي دحضت كل المزاعم المطروحة (للقيمة بوصفها مفهوماً في القيمة الإستعمالية والتبادلية: إستنتاج يرمز للاخريات)، ثم سافر من لندن إلى الجزائر لينسحب نحو الموت، من دون التبرؤ من انغلز أو مؤلفهما (الإشتراكية: الطوباوية والعلمية) الذي كان يعكس سلطته العالمية. وبذلك أنه انغلز، “الجنرال” انغلز الذي كان يحكم عبر التدخل في الحركة العمالية في كل مكان، في الوقت الذي تبقى له للعيش، هو من وضع لنفسه مهمة إدارة الوحدة الوهمية لهذا ” العمل”. فإنه كان يكتب بوضوح شديد، الكل كان يفهمه، والجميع أعجب بعلمه الموسوعي الذي تحدث عن كل وأي تاريخ، تحت اسم هذه الفلسفة: المادية الديالكتيكية. مادية أكثر، ديالكتيك أقل؟ أم ديالكتيك أكثر، مادية أقل؟ هذه هي اشكالية الخلفاء، من بليخانوف وبيرنشتاين إلى لوكاش.. والكل سيجد موطنه الخاص، من دون إيجاد حل لهذه الإشكالية، كل منهم يمر عبر تطرف نحو آخر في رؤيته الخاصة، هذه علامة أن هناك شيئاً لم يعمل في هذا التعبيرالوحشي، ايّ الوحشية الفلسفية، بما أن لا يجده المرء حاضراً في أى جزء من التاريخ الكلي للفلسفة. هذا العجز في تفكير تاريخ الفلسفة عبر هذا التعبير، من أبيقور إلى لاسال ثم إلى بيليخانوف، وبيرنيشتاين، ولوكاش، يحمل دلالات عظيمة: أنه يدل على أن المفاهيم المطروحة هي ليست مناسبة لأي شيء غير إقرارها لذاتها. الذين استفادوا هم بيلخانوف ولينين نفسه، ثم ستالين في الأيام القديمة حين كانت دوغمائية العِلمين تطغي، وبما أننا هنا لِمَ لا تكون هناك لغتان؟ وموسيقتان؟ وأدبان؟ (“الواقعية الاشتراكية”) ومنظوران للعالم: أحدهما بورجوازي، وثانيهما بروليتاري؟
الكل يعرف النتيجة: العمل الهائل، والسخيف، والمجهض لكهنة المادية الديالكتيكية والتاريخية، ولكل الفلسفة السوفيتية الرسمية وتوابعها في البلدان الإشتراكية، وعدد من الأعضاء أو الفلاسفة الحزبيين للنظرية الماركسية في الاحزاب الغربية (!): النتيجة كانت موت الفكر الماركسي، التي كانت تموت في إيطاليا حتى، أكثر البلدان ذكاءاً في العالم، حيث كانت تموت فعلاً في غرامشي، أكثر القادة ذكاءاً في العالم.. في ظلمة السجن. يقال إن “للفرنسيين عقول سياسية، وللألمان عقول فلسفية، وللإنكليز عقول إقتصادية” (ماركس)؛ لكن تبقى الحقيقة أن شيئًا بمثابة الخلاص أتى من البلد الذي له عقل سياسي، من دون أي فيلسوف عظيم: ليس من سارتر أو مارلو- بونتي، أو من مفسري الفينومينولوجيا، أو من هزة ديلا فولب، بل من عشر صفحات كُتبت، أيضاً في السجن- لكنه كان سجناً ألمانياً، كتبها كافالييس (حول نظرية العلم) حيث تمّ تلخيص كل الصرامة للفلسفة الجادة، ليست تلك العائدة للمؤدلجين، بل من أرسطو إلى هوسرل، مروراً بـ: ديكارت، وكانط، وهيغل. ومن عشر صفحات كتبها كافالييس في السجن، غير معروفة عند الكل في الخارج بالضبط كما كان فيتغينشتاين في فرنسا، وبطريقته الخاصة في مستوى فيتغينشتاين؛ ومن مقالات مخفية كتبت قبل أوانها من قبل أسوأ شخصية في العالم: كانغيلام، الذي أمضى خمسة عشر سنة مربكاً للفلسفة، طاغياً على الصفوف الفرنسية بإرهاب وصرامة التي استمدها من ديكارت ونيتشه. هكذا في فرنسا وُجد جيلاً أعاد تعلم كيفية التفكير بشكل ماركسي خارج الماركسية وقام بتعليمها لعالم مصدوم.
هكذا هي الطريقة الغريبة التي نهضت وبعثت فيها الماركسية، المدفونة منذ بدايات التحول الذي أجراه ماركس على إكتشاف انغلز. يجده المرء بسعادة في الفصل حول التراكم البدائي، الذي نجد فيه إعادة إحياء للثيمات الموجودة في كتاب (أوضاع الطبقة العاملة الإنكليزية)، رغم تجليات البيان الشيوعي في الفصول التي سبقت هذا. هذا الفصل لم يقحم نفسه إطلاقاً، كما هو الحال في (أوضاع الطبقة العاملة في إنكلترا)، في تطورات “التناقض” ما بين القيمة الإستعمالية والقيمة التبادلية، وفي “نفي النفي” الذي يمثل البروليتاريا والثورة. لقد طفى هذا الفصل في الهواء، مثل الكثير من نصوص ماركس المذهلة، عبر التخلي عن عمله لينقذ المنطق “الفلسفي”. هذا هو موقع “العبقرية” الذي تخلى عنه انغلز، سعيداً بموقعه بوصفه الـ “موهوب” الذي يخدم الفيلسوف العبقري بإخلاص.
هذا ما يفسر خصوبة الماركسية. التي أجهضت كفلسفة، وأُنقذت كتكوين تاريخي لصراع وتشكل الطبقات، ومصيرها كله مرهون في هذا الـ”ما – بين”. فالأمر يعود إلينا، بدلاً من الإدانة أو المهادنة، أن نلعب في الـ “ما – بين”؛ أن نرتب ما بين لمحات العبقرية، التي أولاً تأتي الينا عبر انغلز، والغباء الهائل؛ وبالتالي نجعل هذه العبقرية تعمل على الغباء الفلسفي العائد إلى ماركس. هذه ايضاً طريقة لإدراك أنه لم يكن انغلز (الذي كان احمقاً بما فيه الكفاية أن يكتب (ضد – دورهنغ) الذي روّج له ماركس) ولا ماركس (الفيلسوف الذي تمكن، في “التراكم الرأسمالي” و”ملاحظات حول فاغنر”، من الإنقطاع عن غباءه الفلسفي) مجرد رجلين شاركا هذين الدورين بين العبقري والموهوب، بل هما مفكران معقدان خلالهما عاد المكبوت بأسوأ شكل من الشذوذ.. إنها حقيقة يمكننا التعلم منها مراراً وتكراراً.
إذا كانت ماركسية (البيان الشيوعي) وجزء كبير من (رأس المال) قد ماتت، فإنها، على أية حال، تعيش عبر هذه العودة للمكبوت، الذي لم يتمكن لا ماركس ولا انغلز من الإشتباه على وجوده. إن ماتت الماركسية، فإننا لا زلنا بإمكاننا أن نجد شيئاً فيها لتفكير واقع الرأسمالية، والصراع الطبقي – الذي يعتمد عليه كل شيء آخر، والطبقات المشروطة بهذا الصراع، وواقع الإمبريالية التي هي نتاجه.. واقع كل هذا وكل شيء آخر حتى.
إذا كانت هذه الرجعة لجانب فكر ماركس وانغلز لا تزال متاحة لنا، فإن المسألة للأسف الشديد ليست بالمثل بالنسبة للأحزاب الشيوعية. هذه المنظمات، المبنية على أسس فلسفة (البيان الشيوعي) و(ضد-دهورنغ)، تقف فقط على أكاذيب محضة، وعلى جهاز القوة الذي يبني نفسه في الصراع وتنظيمه. هذه الأحزاب، التي تعتمد على النقابات والأرستقراطية العمالية، هي الأحياء الموتى، التي ستدوم ما دام أساسها المادي يدوم (النقابات التي لها سلطة في مجالس الأشغال، والأحزاب التي لها سلطة في البلديات)، ومادامت قادرة على إستغلال وفاء طبقة البروليتاريين والظروف القاسية لفقراء البروليتاريا والمأجورين. من الآن فصاعداً سيكون هناك تناقض متضارب ما بين ملامح العبقرية في فكر ماركس وانغلز والتقليدية العضوية في الأحزاب والنقابات. ولا شيء يشير أن صراع هؤلاء الأكثر حرماناً سيكون بقوة صراع ذوي الامتيازات الذين يسيطرون على جهاز القوة. إذا تمكنت الماركسية، في برهة، أن تحيا مرة اخرى، فإن الاحزاب هي الأحياء الموتى، مجمدة بالقوة وجهازها الذي يحمل هذه القوة، وتعيد إنتاج نفسها لتسيطر عليه بسهولة وتحمل الإستغلال ضمنه.
نحن نعيش هذا التناقض، وأنه قدر جيلنا أن يقوم بتفجيره. سينفجر رغم الصعاب، في تمرد شباب العالم الجدد.