سأقصّ عليكم نبأ “نسر قاسيون” بشيء يشبه الحق.
الحقيقة أنّه ليس نسرا ولا يشبه النّسور في شيء.إن هو إلّا مجرّد عقاب عجوز يعاني من انبعاج كبير في بطنه.ورأس يداري صلعه بباروكة.يسكن مقبرة القضايا القديمة التي تعب من حمل حِملها أصحابُها فكانوا يرمون بها في تلك المقبرة السحيقة الموحشة لفترة من الزّمن في انتظار أن تمرّ قاطرة التاريخ فيحسم موظفوها أمر تلك القضيّة ويقرّرون مصيرها. كانت في المقبرة قضايا كبرى وصغرى وتافهة من كلّ الأصقاع والأزمان.مركبة التّاريخ بطيئة جدّا جدّا والحسم طويل أمده.ومن كان طويل النفس كان يحسن الإنتظار ومن لم يكن طويل النفس من الخليقة، كان يرمي قضيّته هناك ويذهب إلى حال سبيله ليتسلّى بقياس حجم خصيتيه وتعداد ما يمكن أن تفرّخ من صغار يرميهم في الحديقة الزّرقاء ليخوضوا حياتهم وهو يتأمّلهم وتنتفخ أوداجه سعادة وفخرا وخراء أيضا.
“نسر قاسيون” لم يكن إسمه.إسمه الذي عرفته به هو عبد الواحد بن سالم الرّمادي. كان إسمه يتوسّط إسم قائمة النّاجحين دوما في الكليّة.لا هو بالذّكيّ الذي يسطع نجمه ولا هو بالغبي الذي يترك فرصًا تفوته دون أن يستغلّها ليخرج من وسط قائمة البشرية وينحت لنفسه كيانًا محترمًا بين الناس. ولكن لأنّ معايير الإحترام تختلف من عصر إلى آخر ومن جيل إلى جيل .كانت موهبة “نسر قاسيون” هي في التلوّن بلون موضة الإحترام في هذه السّنة أو تلك. وهذا كلّه عرفته لاحقا بعد المصادفة السّعيدة التي جمعتني به في أحد اللقاءات التي تتفوّق فيها قلّة الأدب على الأدب.كان غريب الأطوار ، عجيبها. تعرف منذ أوّل كلمة ينطق بها انّ الرّجل لم يخرج سليمًا معافى من سنوات الجامعة، بل لعلّك تتمادى وتسأل نفسك: “هل كان سليما آنذاك ، أيّام الجامعه، من الأساس؟”
ظللت أسمع خطابه الذي قام ليلقيه على أنّه مجرّد مداخلة في نهاية اللقاء، فإذا به يتحوّل إلى كعبة للتقدّميّة.وكان الزّبد يتطاير من فمّه وحدّة صوته تتصاعد وهو يخطب ويحوّل الحديث من شأن أدبي بحت تتصارع فيه مدرسة الحداثة مع مدرسة ما بعد الحداثة إلى عرض لمراحل نضاله وبطولاته في التصدّي للديكتاتورية ونضاله أيام الجامعة.كلّ هذا وأنا أنظر ولا أتضجّر كما كان يفعل كلّ المدعويين الذين أزعجهم كلامه الذي لا يحمل معنى.لم يكن ذهني مشغولا بالتضجّر بل كان يعمل بسرعة الضّوء يفتّش عن ذلك الوجه في شوارع ذاكرتي وزواريبها وأركانها المظلمة المهجورة رغم الرّيح التي كانت تصفّر فيها وتكنس كلّ شيء يمضي عليه أكثر من سنة.
إلى أن صطدمت ذاكرتي بصورة منشفة برتقالية تتطاير بسرعة كبيرة إلى مقبرة النسيان خلفي.كان لونه برتقاليّا فاتحا.
أصابني صداع نصفي من شدّة تركيزي لأفهم علاقة تلك المنشفة بعبدالواحد بن سالم الرّمادي.ثمّ سطع النّور فجأة مما زاد في حدّة الألم.المنشفة.تلك المنشفة كانت هي ما غطّي بها رأسه ذات يوم لماّ كان حديث الكليّة كلّها.
أيام كان القمع على أشدّه وبن علي وجنوده كانوا يتفنّنون في ترويعنا في الكلّيات، وكان رجاله آنذاك لا يتورّعون عن الهجوم ليلا على المبيتات في الكليّات لتكسير عظام الطلبة وتخويفهم من أجل منعهم من التظاهر في قضيّة مّا أو من اجل منعهم من إضراب أو من النزول إلى وسط المدينة لإعلان الرفض.فكنّا نصبح في ساحة الكّلية على أخبار فلان الذي أعتُقل، وفلان الذي هرب للمبيت عند أقارب له في المدينة وفلانة التي أخرجوها من فراشها ليرموها في ساحة المبيت الباردة ويطلبوا منها الزّحف وهي التي لا تفقه من السّياسة شيئا.فتفاجئهم بانهيار عصبيّ صحيح أو مفتعل لتُحمل على جناح السّرعة عائدة إلى غرفتها مع محظوظتين من رفيقاتها اللتين يكلّفهما الشرطي بمرافقتها وتهدئتها.
كانت تلك الأخبار موضوع الأحاديث والتندّر والنقاشات والإجتماعات لأيّام طويلة بعد حدوثها.وبما أنّ الزمن كان زمن شدّة وكرب فقد كان لكل فصيل من التلك الفصائل طلائعه الخاصة وشرطة التّحريات الخاصة به.ونظر لأنّ متطلبات العمل السرّي دقيقة، فقد كانت تلك الطّلائع تبحث آنذاك عن من كان يعطي أخبارنا جميعنا للشرطة، ويسرّب لها مواعيد نزولنا في مظاهرات فتستبقنا وتغلق تلك الممرّات والشوارع ونشتبك معها وتضربنا ونتفرّق ثم نعاود اللقاء في مكان آخر لنحصي الخسائر ونفخر بالمكاسب ونضحك من المهازل أو من المواقف الفكاهية التي تصادفنا آنذاك.إلى أن كان أحد تلك الصّباحات.صباحات ينتصر فيها داوود على جالوت.كانت تترامى إلى اذهاننا اخبار مبهمة عن حدثٍ جلل حصل البارحة. ولانعرف حقيقته إلى أن دخل علينا شخص ضئيل الجسم يغلبه طول ساقيه وهو يضع منشفة برتقالية اللون على رأسه.لم يكن خارجًا من الحمّام ساعتها.بل كان يخفي بالمنشفة شعره الحليق.كانت نظرته إلى الأرض وخطواته سريعة ووجهه متجهّم وحطام كبريائه يقف في حلقه كغصّة لاتزول. وكان حلق شعر الرّاس على آخره علامة لا نخطِئها أبدا.
الواشي الذي انشغلت بالبحث عنه كلّ الفصائل سقط.الجرذ وقع بغلطة بسيطة ارتكبها.قابل مسؤولا أمنيا جديدا دون أن يتحرّى الأمر وقدّم له تقريرا مفصّلا وهو لا يعلم أنّ المسؤول الأمني الجديد ليس سوى طالب قديم في إحدى الكّليات الأخرى،إستعان به فصيله، وقد أعطاه قدم عهده بالدراسة ووسامته شيئا من الهيبة التي تصلح لانتحال شخصية رجل أمن مهمّ. بعد أن كانت الشكوك قد بدأت تحوم حول بضعة طلبة يعدّون على الأصابع ومنهم عبد الواحد بن سالم الرمادي.
انكشف الجرذ إذن وحُلق شعره وعرفه كلّ من في الكلّية وأهين إهانة مابعدها إهانة.حتى أصحاب القضايا العادلة يمكنهم أن يتحوّلوا إلى ضباع في بعض المناسبات.النفس البشرية معقّدة جدا.
كانت سنة المنشفة البرتقالية الفاتحة هي سنته الأخيرة قبل التّخرج. وبعدها اختفى من شاشة الرّادار تماما. وانزوى في ركن من الزّمن يريد أن يُنسى.وتضاءل حتى اختفت عنّا اخباره. إلى أن صادفته في ذلك اللقاء الأدبي.رأيته ورآني.ولعلّه ظنّ أنّني نسيت فقد ارسل لي بعدها بأيّام دعوة فيسبوكيّة باسم غريب “نسر قاسيون”. ولمّا كنت لا اقبل دعوات فيسبوكية من أشخاص يحملون أسماء مستعارة تجاهلت الدّعوة.ولكن ذلك لم يمنعني من التتفتيش في صفحته وفي أرشيفه عن شيء يدلّني على هوّيته. فإذا به صديقنا أبو المنشفة البرتقالية.عبد الواحد الرّمادي صار إسمه “نسر قاسيون” بعد مسيرة نشوء وارتقاء وتطوّر امتدّت على أكثر من عشرين سنة. أو لعلّه زُرع وسط أهل البعث لغاية إليكترونية في نفس يعقوب الذي لم يعرف الفيسبوك أبدا.
رفضت صداقته الإفتراضية وظننت أنّ الأمر انتهى عند هذا الحدّ وأنّه برفضي لدعوته قد ارعوى واتّعظ وفهم المسالة دون أن يضطرّني لجرح مشاعره.لكنّني على ما يبدو لم أقدّر الأمر حقّ أمره ولم أفهم أن ما أصاب عبد الواحد وجعله ينقلب من” عبد الواحد” إلى “نسر قاسيون” كان أمرا عظيما، وأنّ المنشفة البرتقالية قد تركت أظافرها في روحه وندوبا أفقدتها بوصلتها السّوية. وصار عنديّ رسميّا “حالة” يجب أن تُخلّد في صفحة مّا. لعلها صفحة رواية مثلا لتكون شهادة للتاريخ وعلم النّفس معا.أو صفحة أمنيّة مّا.
حدث الأمر منذ بضعة أيّام لمّا وقّع الرئيس المريكي ترامب على وثيقة تحويل سفارته إلى القدس فرمى حجرا في بركة القضايا الرّاكدة ومقبرتها فتحرّك الناس وهاجوا وماجوا كعادتهم عندما يسقط عليهم حجر وهم نيام في مربّعاتهم داخل مقبرة التاريخ تلك.وكنت من أولئك النّاس.حزمت أمري وقلت:” فلأحتجّ ولأنزل مع النّازلين ” وكان الأمر كذلك.و لما انفضّت الجموع المحتجّة.جلست مع لوحي المكتوب الذي كنت أحمله على أطراف نصب تذكاري لأرتاح استراحة المحارب قبل ان أقوم من جديدي لأخوض معاركي الخاصّة التي تركتها تنتظرني على بوّابة حياتي. وإذا بي أرى “نسر قاسيون” قد حلّ ركبه ومعه بعض المريدين وقد اتّشح بالكوفيّة الفلسطينية ووقف تحت الشجرة التي تتوسط ميدان الشلّي، ووقفت إحدى مريداته الصّغيرات تصوّره بكاميرا هاتفها، وهو يلقي خطبة عصماء عن الصّمود وفلسطين وقوى الرّجعية والقدس الإسلاميّة.كان الزّبد يتطاير من فمه وعروقه مكتظّة بدم الغيرة والنخوة وهو يخطُب مركّزا نظره على كاميرا الفيديو التي كانت تصوّره و يتجاهل المجموعة الصغيرة التي بدات تتحلّق حوله ممن اشفقوا على انفسهم من مشقّة الطواف في شوارع المدينة والصراخ تحت شمسها الحارقة.أو من إشتباك محتمل مع قوّات الأمن المتأهّبة للتّدخل في حال خرج الأمر عن مجرّد ظاهرة صوتية تأخذ أمدها وتنتهي.
كان الكائن الإسفنجي داخلي يستيقظ كلّما اجتمع الإخوة الأعداء داخل مسيرة مّا ليلتقط التعابير والوجوه ولغات الأجساد. الإسفنجة تسجّل كلّ شيء حتى صدق النظرات أو لامبالاتها أو استهزائها أو حزنها. والإسفنجة كانت تتجول بنظراتها بين كلّ المشاركين بحثا عن وجوه تعرفها وبحثا عمّن رابط على مبدئه ومن باع ومن تغير ومن غاب.
وكان من سوء حظ “نسر قاسيون” أنّ الكائن الإسفنجي كان منهكا يرتاح، ولكنّه لم يكن فاقدا للذاكرة.لذلك لم يلحظه عندما كان يقلّب النظر في المشاركين أثناء المسيرة.
“نسر قاسيون”جاء بعد انتهاء كلّ شيء ليسجّل موقفا على شريط فيديو، وسيكون هذا الموقف وثيقة في سجلّه يحتاجها عندما تتطلّب المرحلة صناعة أبطالها الجدد وعندما يحتاجون إلى وجوه جديدة تتصدّر المشهد وترضى بمرتّبات أقلّ ممن قبضوا قبلهم.
“نسر قاسيون” كان قديما قنوعا، كان ثمن تقاريره “كسكروت” وتذكرة عودة بالحافلة إلى مسقط راسه.فماذا تراه سيطلب مستقبلا؟ وهل سأراه يوما ببطنه المنبعج نازلا من سيارة ليموزين فارهة ليفتتح مصنعه الخاصّ أو قناته التّلفزيّة؟
حقّا، لا أعرف.