“الوهم نصف الداء والاطمئنان نصف الدواء والصبر أول خطوات الشفاء” – صاحب هذا القول هو ابن سينا العالم والفيلسوف،هذا الطبيب الجليل ألفّ أكثرمن مئتي كتاب في مواضيع متعددة، حيث كان متوقد الذكاء ذا موهبة فذة وعبقرية لا تضاهى، نال من التنكيل ما ناله غيره من العلماء، فأحرقت كتبهم واتهموا بالكفر والزندقة، ومع ذلك ظلّت سيرهم وأعمالهم باقية رغمًا عن منكليهم، واستفاد منها العالم وأصبحت مدخلا للعلوم والبحوث الغربية فغربلت وطورت، وأصبحت كتبهم تدرس في مختلف الجامعات والمؤسسات البحثية والمدارس ودور العلم أمد طويل.
والحسين بن سينا عالم موسوعي طبيب وفيلسوف وعالم في الرياضيات والفل، وهو أول عالم كان يقرن الحالة النفسية بالمرض فكتب الكثير في ذلك، واشتهر بالشعروالمنطق، يتكلم العربية والفارسية ولد في العام 980 م ومن كتبه الشفاء في أربعة أجزاء وكتاب القانون والذي جمع فيه معارف في الطب مع النظريات والأمراض التي اكتشفها.
في رواية للمفكر والروائي المصري يوسف زيدان توصيف بليغ وعميق وراقٍ لسيرة ابن سينا الطبيب والفيلسوف الفذ. الرواية صدرت عن دار الشروق في العام 2018 بعنوان “فردقان …اعتقال الشيخ الرئيس”. وفردقان هي القلعة التي سجن فيها ابن سينا، وفيها تدور احداث الرواية، وكون الكاتب باحث ودارس للمخطوطات القديمة وهو صاحب رواية “عزازيل” الشهيرة، فلا غرو أن تكون هذه الرواية أيضًا فيها من التشويق ما فيها ومن البحث العلمي والفلسفي والتاريخي وفيها من العبر الكثير الكثير، والذي نـحن في أمس الحاجة اليه في هذه الفترة العصيبة بالذات، مما أضفى على الرواية قيمة فنية رائعة سحرت كل من فرأها وبهرته وأعادت إليه سحر تلك السنين من التاريخ الإسلامي بحلوها ومرّها وماعاشه العلماء والفلاسفة والمفكرين من مرارات وما وقع عليهم من عذابات، وما انتابهم من حيف، وما حلّ عليهم من ظلم وصل إلى درجة حرق مكتبات بأكملها وخسرت البشرية الكثير من عصارة تفكيرهم وجهدهم.
يصف زيدان قلعة فردقان وصفًا جميلًا بأنها قابعة هنا منذ قديم الزمان، وقد توالت عليها السنون حتى صارت تبدو للمتأمل فيها، مثل عجوز ثكلى تتكوم في سكون، وتظهر للناظر إليها من بعيد وحيدة لاشئ حولها إلا أرض يباب بلا مبان أو أشجار أو اخضرار …الخ، وهي ملتقى طريقين من طرق التجارة وشيدت لحفظ الأمن يتوسطها بقايا من معبد للنار يعود تاريخه للعصر الساساني يأتيه الحجاج للتبرك، أو يعرجون عليه في طريق حجهم إلى جبل النار المقدسة المطل على بحرقزوين ويقع في المنطقة الجبلية المعروفة بجنجن بمقاطعة فراهان بإيران على مقربة من طهران.
يقدّم يوسف زيدان توصيفًا للقادم إلى هذه القلعة وإشارة إلى ابن سينا: “أما هذا القادم فهو رجل جليل القدر ومشهور كحكيم بارع، وله عند معظم الناس مقام عال، ومعتقل بأمرٍ أميري لمدة غير معلومة. وهو لم يحاكم أصلا ، فلا ندري كم سيبقى هنا إذا جاء”.
حبس ابي علي الحسين بن سينا في تلك القلعة إثر الاضطرابات السياسية آنذاك والتنازع على الحكم بين تلك الدويلات، ولكن من حسن الحظ وعلى خلاف المعتاد يتحصل ابن سينا على معاملة خاصة من آمر القلعة المتنورالمكنى بالمزدوج مقدرًا للقيمة العلمية لهذا العالم الجليل ليعامل أحسن معاملة، وتقدّم له التسهيلات اللازمة والمتطلبات كي يواصل مشواره العلمي على الرغم من هذا الحبس. وأثناء وجوده في القلعة يقدم خدماته للقاطنين فيها والمحبوسين داخلها والمقدرعددهم بمائة وخمسين وفيهم مرضى كثيرون ليقوم بمعالجتهم والسهر على صحتهم، إضافة إلى إنهماكه في الكتابة وتحصيل العلم والمعرفة مما مكنّه من تأليف ثلاثة كتب أثناء اعتقاله وهي من أهم ما كتبه طوال حياته فكتب الهداية، رسالة في الفولنج، حي بن يقظان.
وهنا يشير يوسف زيدان إلى ذلك بالقول: “أنسته الممارسة الطبية إنه بهذه القلعة معتقل. فانهمك نهارا في فحص الأبدان، وليلا في تسويد ثم تبييض (مقالة في الفولنج).
“فردقان” رواية جميلة مزج فيها زيدان الخيال بالواقع في ثوب أدبي قشيب، ملحمة أدبية وتاريخية لعالم ومفكر كابن سينا وظفه زيدان لنشر الأفكار العقلانية وهو الذي يقول بأنه لا يجوز الاحتجاج بالنقل لدحض الحجج العقلية، لأن العقل مقدم بالضرورة على النقل، كونه الأعم في النوع الإنساني، وكونه مناط التكليف وشرطه الأول لبناء الحضارة العربية والإسلامية ومن خلاله بث رسائل عديدة أراد الكاتب إيصالها لنا من خلال اختياره لهذا الطبيب، وهو الذي أتى ثمرة زواج والدته (ستاره) الفارسية السنية المذهب ووالده عبدالله ابن سينا الإسماعيلي الشيعي.
وكأنما الكاتب يوّد أن يقول لنا بأن العظماء يسمون على الخلافات المذهبية والطائفية، ومن هنا نرى في سيرة إبن سينا كيف إنه لم يفرق في علاجه بين أبناء مختلف الطوائف والأعراق الإسلامية والمسيحية وغيرها من الأديان والمذاهب، بل اجتهد في معالجة الفقراء دون مقابل كما عالج الحكام والولاة، وتقلّب في سرايا الحكام من السنة والشيعة على حد سواء كوزير وطبيب.
رسالة أخرى أراد زيدان إيصالها من خلال هذه الرواية الرائعة وهى أن ابن سينا في حلقات العلم التي يعقدها للبحث والنظر والتأملات مع طلابه أباح لحبيبته (روان) والتي يروي زيدان عنها: “يرى في ملامح وجهها البرئ الوضاح، تماوج الحب والحياء وتدافع البراءة والرغبة، واضطراب الندف الثلجي حين تلعب به ريح الشتاء القارس. تلك المعشوقة التي هام بها عشقًا، سمح لها بأن تجالس طلابه للدرس والتحصيل لما يمثله ذلك من إعادة الاعتبار للمرأة وتقدير لمكانتها في المشاركة في تحصيل العلم والمعرفة، شريكة للرجل جنب الى جنب وكأنما يود ان يهمس في إذن الغلاة والمتطرفين بأن العلم للناس أجمعين ولا فرق بين مالك ومملوك ولا لفقير أو غني.
لما لا تكون (روان) مع طلابه وهي المحظية لديه (روان بحار من تحتها بحار، وسماوات فوق سماوات حسنها بعضه ظاهر، ومعظمه مخبوء خلف الأردية والحياء. فإذا تجردت وتجرأت، سلبت العقل بفرط الليونة والنعومة والبهاء. كل ما فيها فاتن وساحر بقدرٍ لا يقدر قلب المحب على الصبر عنه، ولا يكتفي منه بنوال. خصوصًا وهي المحبة، المانحة، السكرى بالكؤوس وبالانفاس الساخنة السابحة بشفتيه فوق حناياها، وكل أنحائها)، وكما يقول زيدان: “الرجال مهما كانوا حكماء فإنهم لا يبرأون من الطيش الطفولي”.
فقد كان الحكيم على الرغم من انشغالاته العديدة في التأليف والمعالجة وتدريس طلابه، محبًا للحياة منهمكًا في لذاتها شأن غيره من البشر آنذاك وفي ذلك الزمان، فالجواري والإماء والقيان الحسان ومنهن من يجدن العزف والغناء كن يعشن في كنف الحكام ورجالات الدولة، وهنا يسرد زيدان حال ابن سينا في توزيع أوقاته فيقول: صارت أوقاته موزعة على منوال واحد، في الصباح يعود المرضى ويصف العلاجات، ومن أوان العصر الى أول الليل يجالس تلامذته ويملي عليهم كتاباته، ويناقش معهم قضايا المنطق والفلسفة والإلهيات وبعد صلاة العشاء ينعقد مجلس الشراب والألحان والغناء. وقرب انتصاف الليل، يقوم منفردا الى غرفته فينكب على الكتابة وتبييض المسودات والأمالي. ثم يختتم يومه بسويعات سريرية في حضن “روان”.
رسالة أخرى وجهها زيدان من خلال هذه الرواية وهي أن أمور الدول الإسلامية والتطاحن بين المذاهب لن يصطلح الا بوجود الدولة المدنية العلمانية التي ترعى شؤون المواطنين كافة دون تمييز طائفي أو مذهبي أو عرقي ليعيش الكل بسلام وأمان.
فهل انطق واستنطق يوسف زيدان في هذه الرواية الشيقة التاريخ وأحداثه من خلال اختياره لابن سينا كمثال حي على ما لاقاه الفلاسفة والمفكرين والكتاب والمثقفين من بطش وإرهاب وتعذيب حتى يومنا هذا من قبل الحكام والقابضين على سدة الحكم؟ ألا نعيش نفس السيناريو في هذا الوقت بالذات والاقتتال قائم بين الدول الإسلامية وكأنما التاريخ يعيد نفسه ؟
الوصف الجميل والمبهر للاحداث في هذه الرواية يأخذك بسحره إلى الفترة التي عاش فيها ابن سيناء طالبًا وعالمًا وانسانًا قبل كل شيء، له ما له وعليه ما عليه، وهذا الفن الروائي يتميز به يوسف زيدان شديد التميزعن غيره، فهي ميزة لا نجدها إلا عند القليلين من الرواة وبالخصوص إذا ما أخذنا بعين الإعتبار بأن زيدان مفكر ودارس للفلسفة وتاريخ العلوم.
يوسف زيدان أبدع رواية جميلة عميقة المبنى والمعنى والدلالات وبأسلوب عربي فصيح قلّ نظيره، وفتح كوة للباحثين للاستزادة من التاريخ للنهوض بالحاضر وأخذ العبر للمستقبل. ولا عجب إن احتفلت اليونسكو بمرور ألف عام على ولادة ابن سيناء في العام 1980 في دمشق، فذاك تكريم مستحق لهذا العبقري الفذ الذي خلّد اسمه بحروف من ذهب، فهل نحتفل بذكرى مرورألف واربعين عاماً على مولده هذا السنة؟