تعدّ المشكلة الطائفية خلال العقود الأربعة الماضية، أحد أكثر المشكلات تفجرًا في المشرق العربي. بل إن تفجرها قد جاء مع تمدد الحركات السلفية المتشددة واشتداد عود حركة الأخوان إبان حقبة أنور السادات ومع انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية والعمل على تصدير ثورتها في الأقاليم العربية المجاورة. وقد ازدادت حدة المشكلة الطائفية مع سقوط نظام البعث في العراق وصعود الأحزاب الإسلامية الشيعية وسيطرتها على مقاليد السلطة في العراق.
من هنا تأتي دراسة الكاتب والناقد البحريني علي الديري كقراءة مميزة وهامة في مناقشة المرتكزات التي تقوم عليها النزعات العصبوية. يقدم الكتاب عبر تجربة المؤلف مع ثنائية الخارج والداخل، أن الوجود خارج الطائفة يجعلك تلقائيا داخل فضاء المدينة وداخل فعلها الحر. فكل خروج هو دخول آخر. أنت تخرج من حيز، أفقه ضيق لتدخل أفقا أكثر رحابة وأكثر اتساعا. فمن خارج الطائفة (الفصل الأول)، إلى داخل المدينة (الفصل الثاني)، ومنها إلى داخل آخر وأكثر تشعبا، الدولة (الفصل الثالث)، ثم داخل إنسان هذا المكان الذي يشكل المجتمع (الفصل الرابع).
في الفصل الأول (خارج الطائفة) يشير الديري إلى أن المثقف لا يمكن أن يكون مثقفًا حقيقيًا وهو داخل الطائفة، ولا يمكن المراهنة على مثقف وهو داخل طائفته. لأن “وظيفة المثقف أن يوسع إطار الجماعات، ليكون بمقياس الوطن لا بمقياس الطوائف.”1 والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما معنى أن أكون خارج طائفتي؟ “يعني أن تكون طائفتي موضوعا أشتغل عليه، لا إطارا أستند عليه.”2
قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن الديري يقصد بصيغة “أنا خارج الطائفة” إعلان براءة أو حرب، غير أن المسألة في عمقها إشكالية معرفية، ووجودية، واجتماعية، وسياسية، بمعنى آخر “أحاول أن أفهم من خلال هذه الإشكالية (أنا خارج الطائفة) أناي ومجتمعي ودولتي، وجماعتي التي أعيش فيها.”3 أن أكون خارج طائفتي بهذا المعنى، أجعل الدولة خارج الطوائف.
يذكر الديري أنه بعد زيارة المفكر محمد أركون للبحرين في 2001 كانت التهمة الأكثر حضورا في الحراك الثقافي العام هي (أنت خرجت من تقليد رجل الدين ووقعت في تقليد أركون). يقلب الديري التهمة إلى سؤال: ما الفرق بين علاقتك برجل الدين وعلاقتك بأركون؟ أو ما الفرق بين تقليد رجل الدين وصداقة المفكر؟ هل يمكن أن يكون رجل الدين صديقا؟ يجيب الديري ” أن العلاقة مع رجل الدين محكومة بقانون الماهية، والعلاقة مع المفكر محكومة بقانون التصيير. قانون الماهية يفرض عليك أن تكون هو (…) قانون التصيير يطلب منك أن تكون أنت وما تفعله.”4 نحن مع رجال الدين نتماهى، ومع المفكرين نتصاير .
في الفصل الثاني (المدينة والفعل الحر) يؤكد الديري على أهمية مقاومة الطائفية، ولكي ننجح في ذلك علينا أن ننشئ مدينة، لأن المدينة تقوم على الفعل الحر، وحرية الفعل تحتاج حماية. “كي تكون مدينتنا وطنا للفعل الحر، فإننا نحتاج إلى أن نجعلها بثلاثة ألوان لون للتشريع ولون للتنفيذ ولون للقضاء. أن تكون المدينة بثلاثة ألوان فهذا يحميها من لون الفرد الواحد وإرادته، ومصلحته ورؤيته (…) حين يبهت أحد الألوان الثلاثة أو حين يمحي لون أحدها لا تعود المدينة مكانا آمنا للوطن.”5
كذلك في هذا الفصل يؤكد الديري على أهمية تحرير المثقف من السياسي. لأن السياسي ينسجم مع السائد والأكثرية والنافع واليومي والمستقر، إنه ينسجم مع ما يمكنه من أن يعزز من حكم سلطته. يقابل أحادية السياسي المتمثله في دفاعه عن الواحد، وانحيازه لجماعته، تعددية المثقف المتمثله في دفاعه عن التعدد، وانحيازه للشخص وتكثيره للمعنى، وانفتاحه على كل الجهات. وفي جانب آخر يشدد الديري على أهمية تحرير المثقف من رجل الدين. لأن المثقف أو المستنير لا يتصف بالتقيّد أو بالتوقف، وهو ما يجعل منه متمايزا عن رجل الدين، في علاقتهما بالفعل الحر وصناعة المدينة. “المدينة صنيعة المثقف لا رجل الدين، رجل الدين لا يصنع مدينة ، المدينة يصنعها الفعل الحر، لا النص المقيد. النص يصنع جماعات والفعل الحر يصنع أفرادا، النص يسبق الإنسان والفعل يلحق الإنسان.”6
لكن ما هو الفعل الحر؟ الفعل الحر هو “ما ينجزه الإنسان بتصرفه في العالم، من نصوص وخطابات ورسومات وأشكال إدارة وحكم وعلاقات وصور وألوان وأنظمة وقوانين، الفعل الحر هو تصرف الإنسان في وجوده من دون الخضوع إلى سابق (…) الفعل الحر أن نصنع حقائق كثيرة للوجود.”7 ولا يسعنا في هذه المقالة تسليط الضوء عن “تحرير الاختلاف” و “تحرير خرائط المدينة” و “تحرير الخيال” و “تحريرالحقيقة” و”تحرير الرابطة المدنية” التي أسهب الديري في طرحها وشرحها في الفصل الثاني من كتابه آنف الذكر.
في الفصل الثالث (داخل الدولة) يغوص بنا الديري في أعماق بحر الدولة الواسع وأمواجه العاتية ليفك طلاسم التناقضات والصراعات داخل الدولة الواحدة. اعتاد العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر على جعل السلطة هي الدولة، والدولة هي السلطة. لذلك نرى الحاكم أو العائلة أو القبيلة أو الحزب هي السلطة والدولة في ذات الوقت. “هناك فرق بين منطق الدولة ومنطق السلطة. بل قد يتعارض منطق السلطة ومنطق الدولة، فالسلطة تبقى في النهاية مجسدة في أشخاص أو عوائل أو عصبيات أو أحزاب أو جماعات. وهذه التجسيدات لها منطق مصلحة خاص بها، وكثيرا ما يتعارض مع فكرة الدولة، أو منطق مصلحتها.”8
يفرق الديري بين “طاعة العامة” وبين “الطاعة العامة”. في “الطاعة العامة” الجميع نبلاء، وبقدر ما يطيعون تكون الدولة، والناس لا يطيعون الناس، بل يطيعون ما يتوافق ويتعاقد عليه الناس. إنهم يحترمون هذا العقد العام. وفي “طاعة العامة” يحكم شخص أو عائلة وينظر إلى الجميع على أنهم رعاع وعامة وبسطاء وسواد أعظم. في “طاعة العامة” لا يوجد ميدان اجتماعي أو سياسي عام، بل هناك ميدان للطاعة تتنافس فيه الجماعات لإظهار شعائر الولاء لشخص غير عام. وفي “الطاعة العامة” هناك ميدان اجتماعي وسياسي عام، يتحاور الناس فيه ويختلفون ويتعددون ويتباينون، ويحتكمون في كل ذلك إلى مؤسسات عامهم، من دون أن يلجأوا إلى شخص مفترض الطاعة. في “الطاعة العامة” مجال حركة الناس هو الشارع العام، أما في “طاعة العامة” فمجال حركة الناس هو في الشارع الخاص حيث الطائفة والعائلة والقبيلة.
في الفصل الرابع والأخير (داخل المجتمع) يبرز علي الديري التباين الواسع بين (روحانية المخطط الكبير) وبين (المخطط الصغير للملة أو الجماعة). في الأولى تكون روحانية الإنسان عابرة للزمان والمكان، متقبلة للمختلف ومتسامحة مع الآخر. أما عن روحانية المخطط الصغير فهي منغلقة على نفسها ورافضة للمختلف ومتعصبة مع الآخر. “الحديث عن الروح من غير روحانية تماما كالحديث عن الإنسان من غير إنسانية. تتحقق روحانية الروح بوصلها بالآخرين، بتناغمها وسلامها مع الأرض. بهمسها الباطني بالمحبة، بترطيب علاقتها بالمختلف معها عقائديا وحضاريا، بتوافقها مع المخطط الكبير للكون، لا المخطط الصغير للملة أو النحلة، بالارتباط بالله الواحد في السماء والمتعدد في الأرض والخلق.”9
سيفتحك خارج الطائفة إذا، على الخيال والعقل والدين والعلم والسياسة والعالم والإنسان والتراث والآخر. سيجعلك مهيئا لدخول العالم.
الهوامش:
1- علي الديري، خارج الطائفة ص29الطبعة الأولى 2011 دار مدارك
2-المصدر السابق ص29
3-المصدر السابق ص32
4-المصدر السابق ص53
5-المصدر السابق ص137
6-المصدر السابق ص152
7-المصدر السابق ص154
8-المصدر السابق ص214
9- المصدر السابق ص328