منذ الأزمة الاقتصادية والمالية في أكتوبرمن 2008 لم يتعافَ الوضع الاقتصادى في العالم وإنْ نجت الرأسمالية في ذلك الوقت، عندما قدّمت الدول الرأسمالية مليارات الدولارات لإنقاد النظام الرأسمالي ومؤسساته من الانهيار والغرق في وحل الأزمة، ولكن تداعياتها لازالت مستمرة، وجاءت جائحة “كوفيد 19” لتكشف من جديد عن المخفي في النظام الرأسمالي وفشل نظامه الصحي وانهياره، في أكثر من دولة في دول المنظومة الرأسمالية، وفي البلدان ذات الاقتصاد الريعي، وإنْ اختلف الوضع فيها، تبقى الحال الاقتصاديه والمالية في وضعٍ لا تُحسد عليه.
سوف نتطرق هنا للوضع الاقتصادي والمالي والمعيشي بشكل عام في بلادنا مع التأكيد على أهمية الإجراءات والقرارات التي اتخِذت من قبل الدولة، يبقى الوضع مقلقاً في ظل حرب الأسعار بين الدول الكبرى المنتجة للنفط ( البترول ) وإنْ حاولت تقليل الإنتاج اليومي من البترول لتحافظ على سعر معين للبرميل ولكن التحديات الماثلة أمامها كبيرة فى ظل استمرار جائحة كورونا واستنزافها أموال طائلة ربما تفوق الميزانيات السنوية المقررة، مما يتطلب إعادة برمجتها وجدولتها وتقليل النفقات المالية، لن تعود معظم الدول الخليجية كما كانت عليه في السابق بسبب العجوزات الكبيرة، وبعضها استمر في أخذ قروض من المؤسسات المالية الدولية وأصبح محاصراً بشروط وإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والدين العام في ارتفاع مستمر في ظل هذا الوضع الاقتصادي والمالي المتأزم.
وينطبق هذا على بلادنا البحرين وهي تواجه جائحة كورونا، وأصبحت تلجأ إلى مسكنات تخفف من الألم ولا تعالج الموضوع وبالأخص أنها في حاجة ماسّة لسيولة نقدية لكي تنقذ الوضع الذي فيه، فعندما قررت دعم القطاع الخاص (رواتب الموظفين والعاملين البحرينيين) كان خيارها الذهاب إلى صندوق التأمين ضد التعطل لتأخذ منه ( 215) مليون دينار لتغطية عجزها المالي .
كما طُرح مشروع بقانون تمّت الموافقة عليه من قبل لجنة الخدمات في مجلس النواب، وصدر في مرسوم رقم ( 15) لسنة 2020، حيث جاء في المبادئ والأسس العامة التي يقوم عليها المشروع بقانون في رقم 3 منه التالي: (الإسهام في الاستقرار الاقتصادي بحيث تتم الاستفادة من فورات صندوق التأمين ضد التعطل بقيمة إجمالية تقدر ( 215) مليون دينار بحريني لحماية الموظفين البحرينيين العاملين في القطاع الخاص من خطر التعطل بسبب الأوضاع الاقتصادية الراهنة وهو الأمر الذي يأتي متسقاً مع الأهداف التي أنشئ من أجلها الصندوق).
في خطوة أولية لإنقاذ القطاع الخاص من الغرق في ظل استمرار جائحة كورونا والتي لا يُعرف متى تنتهي وتنقشع غمتها عن بلادنا وتعود الأمور لطبيعتها، تمّ دفع رواتب البحرينيين في القطاع الخاص لمدة ثلاثة أشهر، بدأت التحولات المالية للقطاع الخاص من 16 إبريل 2020 الماضي، لكنها في الحقيقة أموال الموظفين والعاملين البحرينيين تعود لهم من جديد، فمن المعروف بأنهم يدفعون 1% كاستقطاع شهري من رواتبهم منذ أربعة عشر عاماً، حيث صدرفي شهر نوفمبر من عام 2006 مرسوم بقانون رقم ( 78) لسنة 2006 بشأن التأمين ضد التعطل .
ولازال الاستقطاع مستمراً بالرغم من رفضه من أغلبية الموظفين والعاملين في القطاعين العام والخاص، لأنه لن يحل مشكلة العاطلين عن العمل الذين تأسس من أجلهم لحل مشكلة البطالة في صفوفهم ولكن أعداد العاطلين عن العمل من خريجي الجامعة والثانوية ما زالت بالآلاف، وهم في تزايد سنوياً، وبالرغم من وجود فائض كبير بلغ (800) مليون دينار في الصندوق، فإنه لم يحل أمرهم. وسبق أن أخذت الحكومة ملبغ 230 مليون دينار بحريني منه لتمويل برنامج التقاعد الاختياري، قيل أنه لمرة واحدة فقط، وكل هذا تطبيقٌ أمينٌ لنصائح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتقليص العمالة المحلية في الدوائر والمؤسسات الحكومية وتخفيف مصاريف الدولة.
لا نعرف كم تبقّى من الأموال في هذا الصندوق، ولا نعرف إلى متى تستمر تلك النصائح الكارثية، فيما الدين العام في تزايد مستمر، حيث بلغ في شهر نوفمبر من عام 2019 12.045 مليار دينار، وفقاً للبيانات الصادرة عن مصرف البحرين المركزي، ولا توجد إحصائية رسمية كم وصل الدين العام حالياً، هذا غير الفوائد المستحقة الدفع مقابل التأخير في دفع القروض المالية المستحقة على الدولة من قبل الجهات والمؤسسات المالية، وبالرغم من الدعم المالي الخليجي البالغ عشرة مليارات دولار لمدة خمس سنوات من عام 2018 إلى 2023 ، بقي الوضع المالي والاقتصادي على ماهوعليه، ولم يحل أصل المشكلة بالرغم من فرض الضربية المالية 5% وحصول الدولة على مبلغٍ يُقدر بحوالي 483.500 مليون دينار خلال السنتين 2019/2020 وفقاً لوزارة المالية والاقتصاد الوطني.
جاءت جائحة كورونا لتعمق الأزمة المالية والاقتصادية لتطال مناحي الحياة في البلاد وتعطل عمليات الإنتاج والعمل والتعليم والتجارة وغيرها مما يترتب عليها خسائر مالية تُضاف إلى الوضع المالي والاقتصادي المأزوم في البلاد ودفع الدولة عن المواطنين فواتير الكهرباء والماء لمدة ثلاثة أشهر (إبريل /مايو/ يونيو) ووقف الإيجارات من قبل بنك الإسكان لمدة ستة أشهر، وتقديم مساعدات مالية للمؤسسات والشركات الصغيرة من قبل” تمكين” وغيرها من الإجراءات والقرارات التي اتّخذتها الحكومة لتخفيف بعض الأعباء المالية عن المواطنين جراء الخسائر الكبيرة التي تكبدوها بعد توقف العمل أو العمل الجزئي، ما يجعل الحكومة في وضع مالي صعب.
بدلاً من أن يركز فريق البحرين الوطني على التصدي لجائحة كورونا، برزت إشكالية كبيرة وخطيرة قِباله وهي تزايد الإصابات في أوساط العمالة الوافدة وإنْ تعددت أسبابها، لتضيف أعباءً ماليةً أخرى على الدولة في ظل ظروفها المالية والاقتصادية الشحيحة، برزت أصوات في المجتمع يشمّ منها رائحة العنصرية والكراهية للعمالة الوافدة في البلاد، ونقصد بها العمالة الفقيرة والكادحة التي تعيش في أوضاع صعبة: سكنٌ مكتظ بعشرات الأفراد وبعضه متهالك وآيل للسقوط، لا تتوفر فيه شروط السلامة والصحة ولا يليق بأن يسكن فيه إنسان ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين، ويحصلون على رواتب جداً متدنية لا تغطي احتياجاتهم من سكن ومأكل وتطبيب، وتتراكم على بعضهم ديون مالية لايستطيعوا تسديدها، فيلجؤون إلى الانتحار، ومنهم من يعمل ساعات إضافية.
المسؤول عن هذه الأوضاع هي السياسات الحكومية، لأنها سمحت للسماسرة وتجار التأشيرات بالتجارة بالعمال الأجانب الذين يقبضون الأموال منهم أو من وكلائهم في البحرين في نوع من الإتجار بالبشر، بدون وازع ديني وأخلاقي إنساني، فهؤلاء العمال دخلوا البلاد بشكل قانوني بتأشيرات رخص عمل صادرة عن الجهات الرسمية المعنية، ما يقتضي أن يحل هذا الملف بشكل قانوني وإنساني، والابتعاد عن الحلول الترقعية، عبر تغليظ العقوبات على تجار البشر ومساءلتهم ليكونوا عبرة للآخرين، وهذا يوجب على مجلس النواب فتح هذا الملف الخطير ومحاسبة المسؤولين عنه انتصاراً للعدالة الإنسانية، كما على الاتحادات والنقابات العمالية ألا تتوارى عن الأنظار وهي تقرأ وتسمع الهجمات العنصرية التي تُشنُّ على العمالة الوافدة الفقيرة ضحية المتاجرين بها من قبل أناس لا ضمائر لهم غير الدينار، فهذا من صلب واجبات الحركة النقابية.