الكرة الأرضية تغصّ بالحركة. وسيمون لم يعرف يوماً الانتظار. مع كل التعب الذي أصاب جسده، فهو يستيقظ كل صباح كي يستقلّ الباص. في طريقه، نجده يمرّ بحي غرنيل، حيث الناس في حركة من غير توقف، ومن ثم شارع فوجيرارد، حتى محطة مونتبرناس، فحديقة لكسمبورغ، للتوقف أخيراً أمام السوربون، حيث سيمون يدرس الفلسفة، و يعدّ لتقديم الامتحانات الوطنية التي ستجعل منه أستاذًا إن نجح. مع الأسف، لم يكن يعرف بأنه في الليلة السابقة للامتحان، سيكتشف بأنه مريض بالسل الرئوي، وبأن والده سينقله لمصحّة حيث ستضيع سنون من حياته وهو قيد الانتظار.
هكذا تقريباً بدأ بول غادن روايته الأولى التي خطّها في ثلاثينات القرن الماضي، حتى تنشر في ١٩٤١. الهدف من الرواية هو أن يقول ما هو عليه، ولم يكن غادن ببعيد عن شخصية سيمون، فهو كذلك كان طالباً في السوربون، حتى أصبح أستاذ مدرسة لمدة عام، ثم مرض بمرض السل الرئوي فنقل لمصحة، وكتب هذه الرواية التي عنّونها “سلوان”، استلهاماً بالإنجيل الذي يذكر بركة سلوان الواقعة جنوب القدس، العين التي يتبرك بها ويستشفي منها كل مريض، ففيها ساعد عيسى ابن مريم في شفاء مريض أعمى. العين هنا ترمز للمصحة التي مكث بها الكاتب وبطل الرواية.
مشكلة غادن العميقة كانت تكمن في فهم واقع الانسان لما أبعد من الأحكام التي نطلقها حوله، ولما يظهر هو من أوجه شخصيته. كان غادن يريد ترجمة ما لا نستطيع فهمه، ومن ثم جعله واضح أمام أعيننا. لذلك ربما، وجد الانسان في أكثر أحواله شفافية عند المرض، حيث الموت أقرب اليه من الحياة.
لعل الحياة أوضح في العزلة. ولعّل في العزلة هداية إلى معنى أخلص للحياة. هكذا كان غادن يرى الأمور، لاسيما وأنه قرأ “الجبل السحري” لتوماس مان، حيث القصة تتكرر مع بطل الحكاية الذي يزور أحد أقاربه في مصحٍ في دافوس على أساس أن يمكث ثلاثة أسابيع فقط، ولكنه يألف المكان، فيمكث ما يقارب السبع سنوات. هانز كاستروب وقع في حب طريقة حياة هؤلاء المرضى الذي يتميز كل واحد منهم بشخصية فريدة من نوعها، ويجمع ما بينهم شيء من وحدة المصير. أحبهم و أحبوه فقرر البقاء.
لم يخرج توماس مان بطله من المصح حتى بداية الحرب العالمية الثانية، لينهي الرواية بترك بطله وسط المعركة من غير مصير معروف.
هناك قصص أخرى تتناول ذات الحبكة، وكأنما لدى الانسان شعور ملازم بالاعتكاف بعيداً عن العالم وضوضائه، وكأنما في العزلة شفاء من الأمراض، واكتشاف للذات نحن بحاجة اليه. لا يعرف الانسان ما قد يصيبه. بالأمس فقط، كان يظنّ بأنه يملك الكرة الأرضية بكل ثرواتها، وحيواناتها، وبأن العالم كله مسخر له، وبأنه يفعل ما يريد وقتما يشاء، لو كان يعرف الحقيقة، لكان توقف للحظة وفكر أن في الراحة شفاء.
بطل بول غادن في رواية سلوان بقي على قيد الحياة، وخرج من المصحة لينضم لعامة الناس، و يشعر بطعم الحياة، على عكس كاتب الرواية، بول غادن، الذي أخذه المرض في العام ١٩٥٦، تاركاً وراءه روايات عديدة تتناول ذات الحبكة، وكأنها تركت بمثابة تذكير لمن لا يعرف. في حين منح غادن بطله فرصة الحياة، حُرم هو منها في سن صغيرة.