تفتح الدراما باباً من أبواب المعرفة غير المحدودة. فعدا الكتب، والمطالعة، والتعلّم، ومصادر المعرفة الأخرى، تتيح المحاكاة التي تمنحها الأشكال الدرامية، عبر قنواتها، التأثير الكبير الذي تناوله المختصون، ولا يزالون، في دراسات وأبحاث مستمرة، تعطي الدراما مكانتها التي تستحق في تلقين الناس تفاصيل لا تلفت إليها تربية الأهل أو التعليم أياً كان مستواه. وكما الكتب التي تعبر بقارئها حيوات أخرى، تفعل الدراما أكثر من ذلك، إذا ما وضعت في الحسبان الصورة المرئية المغرية،سهلة التلقي، عبر الشاشات في البيوت، مع ترجيح الكفة لصالح الدراما التي يمكن تحميلها أي رسالة؛لسهولة وصولها وتوصيلها للعامة، على عكس القراءة التي تتطلب البحث، والسعي، والتفكر.
هذا التأثير امتد إلى “البرومو” الترويجي، الذي تقدمه جهات إنتاج الدراماعادة، كان أكثرها إثارة للجدل مسلسل “أم هارون”، من بطولة الفنانة الكويتية حياة الفهد،والمستلهمة فكرته من شخصية “أم جان”؛ الممرضة، والقابلة التركية، يهودية الديانة، التي قدمت للعمل في القطاع الصحي بمستشفى النعيم آنذاك، ثم انتقلت إلى مستشفى الولادة بالمحرق، وعملت لاحقاً قابلة لحسابها الخاص، عبر التنقل في بيوت المحرق وضواحيها، وتعاملت بود وإخلاص جعلا لها شهرة ومكانة طيبة، جعلتا سيرتها موجودة على السطح، حتى بعد مغادرتها البحرين –طوعاً- في السبعينات، بوصفها شخصية مميزة في تاريخ البحرين، قدمت في أكثر من فعالية وطنية.(1)
كانت أم جان “وافدة” بالمصطلح الجديد نسبياً، رغم أنها عاشت أربعين سنة من عمرها في البحرين،ولم يُعرف في سيرة هذه الشخصية، التي مرّت على العراق وإيران، وتعلمت، وتزوجت فيهما، قبل أن تقرر وزوجها العمل هنا؛ أن مرّت بدولة الكويت الشقيقة، التي خرج منها اليهود في وقت مبكر من القرن الماضي، لتداعيات سياسية واجتماعية، مع ملاحظة أن الهيئة التي ظهرت بها بطلة العمل هي نفس الهيئة المعتادة لـ”أم جان”؛ بالوشاح الذي يغطي جزءاً من الشعر، والفستان القصير ماتحت الركبة.وظهور بوسترالعمل الجديد،الذي تناقلته وسائل التواصل، ينوِّه إلى عنوان فرعي معنيّ بالقصة الكاملة لليهود في الخليج 1920-1960.ومن المعروف أن وجود عائلات يهودية – محدودة نوعا ما- نزح أغلبها من العراق، موجود وثابت في سير المجتمعات المختلطة، وبالتأكيد نقصت هذه الأعداد ما بعد 1948. واليوم، باتت الإحصائيات تشير إلى أنهم “عشرات” بيننا في الخليج بالمجمل، لكن يكفي أن يمرّ عابر على أسماء لوحات بعض المحلات القديمة في سوق المنامة ليكتشف أن وجودهم كان واحداً من أسباب الانتعاش الاقتصادي، وأن لهم وجوداً لا يمكن إنكاره، برغم حساسية الموضوع، ورغم دعوات المقاطعة المبكرة التي واكبت الإعلان عن المسلسل لمجرد فكرته!
لاشك في غلبة العاطفة، المرتبطة تلقائياً بالقضية الفلسطينية، حين يأتي ذكر اليهود – أي يهود- وليس الصهاينة أعداء العرب الفعليين، والقلق من الحديث عن التطبيع الذي يشكل هاجساً”عاطفياً” وسياسيا أيضاً لدينا، بينما القراءات السياسية لا تكترث إلا بما يصبّ لصالحها. هل التوثيق أو التطرق لحياة يهودي هو خيانة لأوطاننا وانتماءاتنا؟ هل لو تمّ إفراد عمل درامي للطبيب الهندوسي بندركار، وهو أول طبيب يلتحق بالخدمات الصحية بالبحرين في عام 1925، سيعتبر تبشيراً بالهندوسية التي يمارس أفرادها حرية معتقدهم الديني في معبدهم بالبحرين حتى الآن؟ وهل الشخصيات الأخرى، من أقلية دينية،بالإضافة إلى اليهودية، والمسيحية، والهندوسية، والبهائية، وغيرها ممن يعيشون جنباً إلى جنب في دول أكثريتها مسلمة، سنة وشيعة، وخاصة الشخصيات المميزة منهم، والتي أدت دوراً مؤثراً في مجتمعاتها، سيعد ترسيخ فكرة وجودها في المنطقة، وبالتالي الاستحواذ الذي مال إليه بعض من دعوا للمقاطعة؟
وللموضوعية، فإنه لا يمكن مقارنة أصحاب الديانات الأخرى باليهودية؛ لأن سيرة اليهودي جاءت بميراث تاريخي وديني مسبق، إذ سيدرك أي قارئ للقرآن الكريم أن شخصية اليهودي، وصفاته السلبية، حاضرة عبر آيات واضحة، أو عبر التفسيرات التي خصصت مساحات كبيرة معنية باليهود، مثل معرفة الحق وكتمانه/ البخل الشديد/ الإكثار من أكل أموال الناس من الربا والاحتيال والخداع/ الجبن الشديد/ تحريفهم للكلام/ خيانتهم للعهود/ قتلهم خيرة الناس من العلماء والافساد في الأرض، كما أظهرها الدكتور عبدالرحيم شريف الحاصل على درجته العلمية في التفسير وعلوم القرآن(2)، وغيرها من الدراسات العديدة، والتي لا زالت تصب في نفس الفكرة. فلم على قارئ القرآن العادي أن يفكر بغير هذا التفسير الذي تكاد تتفق عليه مناهج المفسرين؟
وليس هذا الإرث حكراً على المسلمين وحدهم؛ فلم يذهب الأدب بعيداً عن هذه الصفات لشخصية اليهودي،حيث تذهب المخيلة تلقائياًإلى “شايلوك” المرابي في مسرحية “تاجر البندقية” لوليام شكسبير،والذي ينتقم لنفسه في أول فرصة سانحة من “أنطونيو” الذي تأخر عن سداد دينه، عبر الرغبة في اقتصاص رطل من جسد أنطونيو، من أي مكان يختاره هو! لم ينجح شايلوك في مطلبه غير الإنساني، الذي حشد الآخرين ضده، رغم أنه صاحب حق، لكن هذا لا يمنع القارئ من التعاطف مع شايلوك الذي تحمّل من المهانة والتحقير أمام العامة الشيء الكثير، حتى واتته الفرصة للثأر في شكل سلبي قدّمه له القدر، ولم يدبره بنفسه، بل برر فعلته بمونولج طويل ومؤثر(3).
ولا يخفى على المطلع أن شكسبير قد عنى الحضور اليهودي الطاغي اقتصادياً في مدينة البندقية على عامة المسيحيين آنذاك. ثم قام بعدها الكاتب المسرحي البريطاني، والمولود في بيئة يهودية، “آرنولد ويسكر” باستخدام أبعاد مختلفة عن شايلوك شكسبير في نصه المعنون بــــ:The merchant (التاجر)، من حيث العمق الفكري، والثقة بالنفس، وجعل من موضوع الاقتصاص من “صديقه” أنطونيو مزحة بولغ في رواجها. ولا نحتاج للتفصيل في كيفية إدراج الكاتب علي أحمد باكثيرلشايلوك، في قالبه النموذجي الجاهز، الذي يستعان به في تقديم شخصية اليهودي الخبيث كل الوقت.
الفكرة أن اليهودية جرى تحويلها قسراً إلى قومية، فيما هي دين سماوي كالأديان الأخرى، وصارت مقرونة بأفعال مثل تلك التي جاءت على هيئة آيات قرآنية بشكل مضمر أو صريح، أو عرضتها الفنون والآداب عبر منافذها مراراً، في تجسيد شخصية اليهودي المكروه بسبب أفعاله، وليس لدينه، ولهذا أمثلة لا تحصى على امتداد الوقت، مثل الكاتب الروسي الكبير ديستوفسكي الذي أدان وجود اليهود في الثقافة الروسية ومحاولتهم التسلط على الشعب في الوثيقة المعنونة بـ”المسألة اليهودية” مع التأكيد أن لا كراهية مسبقة لهم، “لكن يوجد عدم ارتياح ولكنه لا يأتي بسبب أن اليهودي يهودي، ليس لسبب قبلي، ليس لسبب ديني، وأنما مبعث هذا أسباب مختلفة تماما، هذه الأسباب ليس الشعب الروسي مسؤولا عنها، ليس سكان البلاد الأصليون وإنما اليهود أنفسهم”.(4)، وقليل منها ما يمثل شخصية “يحيى”اليهودي/ البحريني (فهد مندي) في فيلم حكاية بحرينية(5)، والذي جاء كأحد مكونات المجتمع، إلى وقت ما قبل النكسة في 1967، مستنكراً ربط انتمائه لأي مكان عدا هذا الوطن الذي لم يعرف غيره، برغم هجرة آخرين راقت لهم فكرة المكان الجديد، وضاقت بهم الأحوال، بسبب الربط “العاطفي” مجدداً للناس هنا لما فعله الصهاينة هناك.أو شخصية “سارة” (ليز سركسيان) في فيلم ولاد العم(6)، الأم اليهودية التي نزحت من مصر إلى إسرائيل، وعانت هي وأهلها الأمرّين في مخيمات بائسة، كونهم يهوداً شرقيين (سفارديم)، غير البيوت “الآدمية” التي جهزت لــ(الأشكناز)، وهم اليهود القادمون من أوروبا، والمحظوظون بمعاملة خاصة في الوطن الجديد، وهو غير ما رمى إليه المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي مؤخراً في منصته الإلكترونية الناطقة باللغة العربية، حول إعجابه بما صرحت به بطلة العمل أن “الكويت فيها ديانات كثيرة”، وانتقد”أصحاب نظرية المؤامرة، الذين ينظرون إلى كلمة التطبيع كشتيمة، ويفضلون المسلسلات العنصرية التي تروج الأكاذيب المعادية للسامية..”، لأن كل الدلائلتشير أن المجتمعات لا تزدري معتقداً مالم يتقاطع مع حياتها أو يفنّد ثوابتها.
شخصياً، لا أعرف لِمَ تمّ اختيار شخصية أم جان من قبل المؤلفيْن البحرينييْن علي ومحمد شمس لكتابتها، حتى لو لم تشر لها الدراما بشكل صريح، بينما المجال يتسع لخلق شخصية جديدة لا تتقاطع مع الهيئة الشهيرة للشخصية الحقيقية، إذا كان الهدف هو التعريف بمكون اجتماعي تواجد – أو لازال- في فترة زمنية معينة.
لكن الدعوة لمقاطعة المسلسل لن تؤدي إلا إلى اجتذاب مزيد من المشاهدين، مع الانتباه إلى “افتعال” الجدل في بعض الأعمال من أجل كسب مشاهدة،غير أولئك الذين يدفعهم الفضول للتعرف على شخصيات غير مألوفة في التاريخ بشكل عام، خاصة إذا كان تكلف الإنتاج لإظهار الحقبة الزمنية بتفاصيلها؛ من ديكور وأزياء واكسسوار، ينقل المشاهد إلى زمن مضى، وحكايات لم يعش في زمنها، ربما تنعش حواسه، وتدفعه للبحث والتحليل وسيكتشف ببساطة إن كان المحتوى الدرامي يعج بأخطاء تاريخية يحفظها الناس، وسيدرك من المشاهدة المتمعنة المحايدة أصغر التفاصيل التي يراد، عبرها، الترويج لفكرة التطبيع من عدمها، دون اغفال أن المشاهد، وهو يشاهد المسلسل، لن ينسى من غدروا، لن ينسى القتلة، ولن يغيب عن باله أن فلسطين دائما عربية.
الهوامش
1. منها فعالية “ولهان يا محرق” في 2009، وجسدت الشخصية غادة الفيحاني، وفي أوبريت وردة للوطن..وطن للسلام في 2013 وقامت بالدور ريم ونوس، مع الإشارة إلى جهود الماكيير ياسر سيف في تقريب شكل الممثلتين إلى الشخصية الحقيقة.
2. https://benihadifa.forumactif.com/t554-topic)
3. تاجر البندقية، وليام شكسبير، ترجمة حسين أحمد أمين،دار الشروق،ص 26
4. المسألة الروسية، فيدور ديستوفسكي، ترجمة: حسن سامي اليوسف، https://www.asharqalarabi.org.uk/markaz/01208.pdf
5. فيلم حكاية بحرينية، منتج في 2006، للكاتب فريد رمضان، والمخرج بسام الذوادي، لمشاهدة الفيلم كاملاً: https://www.youtube.com/watch?v=WeA125P62fs
6. فيلم “ولاد العم”، منتج في 2009، تأليف عمرو سمير عاطف، والمخرج شريف عرفة، لمشاهدة برومو الفيلم: https://www.youtube.com/watch?v=NDBYsCsu6WM
كلام الصور:
ص 1:
تطابق هيئة حياة الفهد مع أم جان في الملصق الدعائي للعمل
ص 2
غادة الفيحاني في شخصية أم جان في “ولهان يامحرق”
ص 3
ريم ونوس في أوبريت “وردة للوطن”