منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي، وعلى مدى ثلاثة عقود لم تتعرَ أخلاق الرأسمالية في طورها المتوحش كما تعرت مع تفشي جائحة “كوفيد – 19″، وكلنا نعرف بأن الشواهد على ذلك أكثر مما تحصى حتى باتت تغطي معظم البلدان التي اجتاحها الوباء، ومنها على وجه الخصوص التي تتصدرها في عدد الإصابات والوفيات، كإيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة التي أضحت بؤرة انتشارة حتى ساعة كتابة هذه السطور ( أواخر مارس / آذار ).
ومع أن ثمة محطات مهمة من الأحداث العالمية خلال فترة الثلاثين سنة الماضية نفسها (1990- 2020) تعرّت خلالها الأخلاق الحضارية المزعومة للرأسمالية المتوحشة، سواء من خلال الحروب العدوانية التي شنّتها الولايات المتحدة – بمفردها أو مع “الناتو” – باسم محاربة الإرهاب ومساعدة الشعوب على إسقاط أنظمتها الدكتاتورية وإحلال أنظمة ديمقراطية محلها، إلا أن المحطة التاريخية الراهنة ممثلة في جائحة كورونا هي المحطة الأهم، في تقديرنا، التي وضعت تلك الأخلاق العفنة على محك الواقع الفعلي أمام مرأى الرأي العام العالمي بأسره بلا رتوش؛ ودونما حاجة لتوعيته وتنبيهه عنها من قِبل أو أي من شرفاء العالم .
على أن كتّاب اليسار، من باحثين ومحللين ومتخصصين كبار في شتى مجالات العلوم الإنسانية والعلمية، إنما برز دورهم في هذه المحطة / المرحلة من خلال ربط تلك الظواهر المتجردة من كل معايير الاخلاق والقيم الإنسانية ووضعها تحت المجهر العلمي المادي لتشريحها وربطها بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحيث لم يستطع حتى كبار مفكري الرأسمالية ومنظريها تبريرها .
وفي هذا الشأن نستطيع القول بأنهم استطاعوا عن جدارة، على تفاوت مستوياتهم وخبراتهم وتجاربهم ومؤهلاتهم، أن يدبجوا مئات المقالات والدراسات العلمية الرصينة؛ ولربما أعداد منهم تعكف الآن على تأليف كتب قد تصدر خلال الجائحة، وبعضها الآخر لعله يصدر بعد استصال الفيروس من على وجه البسيطة.
لكن ثمة كتابات نُشرت ليساريين بدت وقد شطح الخيال بكتّابها إلى ما هو أبعد من تعرية وإدانة الرأسمالية، ليس إلى التبشير بقرب زوالها فحسب، بل و نحى بعضهم الآخر منحى الحنين اللاشعوري بتذكير العالم بإيجابيات النماذج الاشتراكية السابقة أواخر القرن الماضي وكأنها معجزات مبهرة لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا خلفها، غير مقترتة البتة بأي تجاوزات خطيرة من مطبات الممارسة والتطبيق؛ وهذا في تقديرنا ليس ما يجانب الصواب فحسب؛ بل يفضي انطلاقاً من حسن نوايا إلى نتيجة عكسية في في وصول الرسالة للمتلقي القارئ ، أكان ممن سبق الإطلاع بهذا القدر أو ذاك على تلك الممارسات وتكونت لديهم صورة وردية من ثم أضحوا شديدي الاحباط من تلك التجارب لكنهم غير معادين للفكر الاشتراكي، أم من المعادين له ومطلعين إطلاعاً واسعاً كافياً على تلك التجارب، لكن بعيونٍ ماكرة حاقدة لا بعيون ناقدة نقداً موضوعياً محايداً، ومن ثمَ قد يستغلون مثل تلك الكتابات لتوظيفها لتجديد انتقاداتهم الديماغوجية المضللة الخبيثة.
وتأسيساً على كل ما تقدم نرى أن المحطة التاريخية الراهنة المتمثلة في جائحة كورونا التي نحن شهود على فصولها التي لما تنته بعد، إذ تشكل فرصة مثلىٰ لقوى اليسار في العالم للملمة صفوفه وتقويتها ينبغي ألا تقتصر على خطاب فضح أخلاق الرأسمالية فحسب، رغم أهميته ومشروعيته، أو الإفراط في التغني بالماضي العتيد لأمجاد الاشتراكية؛ بل يتوجب عليها بأن يقترن كل ذلك بتقديم نفسها للجماهير المتلقية كقوى يسارية جديدة ديمقراطية ذات مصداقية قولاً وفعلا وخُلقاً قادرة على اقناعها بجدارة كممثلة بديلة عن كل القوى اليمينية والشعبوية والرجعية التي تمكنت من استمالة شرائح أو إلى صفوف منها، ثم نجحت – بدرجة أو بأخرى – مستغلةً في ذلك ظروف الانكسار الكبير الذي ما برح اليسار العالمي يعاني منها منذ ثلاثة عقود على انهيار “المنظومة الاشتراكية”.
وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال إلا من خلال إعمال الفكر والعقل لمقاربة ترسم خريطة أو معالم طريق لاستشراف المهام النضالية الجديدة الاستثنائية وذات الخصوصية والسمات المتوافقة مع ظروفنا عصرنا الدولي الراهن خلال مرحلة جائحة كورونا.