لطالما احتلت السجالات العامة التي عادة تلي الاعلان عن تسليم تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية لجلالة الملك وللحكومة الموقرة ولمجلس النواب، مساحات واسعة من التعاطي المجتمعي مع حيثيات مايرد فيها من تفاصيل حول أداء الوزارات والعديد من الجهات والشركات التابعة للدولة، نظرا لما تحتويه تقارير الديوان ومنذ أكثر من خمسة عشرة سنة من وجوه متعددة من الفساد والتجاوزات الادارية والمالية، والتي كثيرا ما شكّلت وتشكل صدمة للرأي العام، في مقابل ما نسمعه باستمرار من حديث رسمي في الغالب، حول ترشيد الإنفاق وضغط المصروفات وشد الأحزمة على البطون!
إلا أن ذلك الحديث سرعان ما يبهت ويتلاشى بعد أن تستغرق في الحديث حول تفاصيله العديد من جمعياتنا السياسية ومؤسساتنا المدنية وحتى بعض مجالسنا الأهلية، اللاهثة وراء مادة مسلية ومستفزة وربما حتى مسلية، تستسلم بعدها لحالة من الجمود كنوعٍ من حالة الأحباط منتظرة التقرير القادم لتعاود الكرّة وكأن شيئا لم يكن!
الغريب أن هذه الحالة تستدعي عادة تجاوبًا، هو الآخر متصف بالرتابة والتكرار وكثيرا مايبعث على الملل، من قبل الحكومة ومجلس النواب، فها هي الحكومة وقد اعتادت على ترديد عبارتها الأثيرة كل عام بدعوتها لتشكيل لجنة لمتابعة ما ورد في التقرير وبعدها يسود صمت القبور لعام كامل دون أن نستشعر أو نسمع تحولًا حقيقيًا في سلوك وممارسات تلك الوزارات أو المؤسسات، او في الإعلان عن إقالة وزير أو مسؤول ادانته حيثيات التقرير! وهكذا دواليك تتوالى فصول التعدي على المال العام وسط صمت رسمي، وتعاطٍ لا يرقى كثيرا لحجم التحديات القائمة والتطاول على المال العام ومقدرات الوطن من قبل مجلس النواب.
نقول ذلك وقد انتهينا للتو في مجلس النواب من مناقشة آخر تقريرين من تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية بكل ما احتوياه من تجاوزات مالية وإدارية. صحيح اننا بتنا متعودين على متابعتها طيلة أكثر من خمسة عشرة عاما، إلا أن الفارق هنا هو أن الظرف المالي والزماني قد تغيّر كثيرا، حيث تعاظمت مديونية الدولة لتصل في حدود ال 100% من الناتج المحلي الاجمالي، فيما تجاهد الدولة في البحث عن بدائل لتحسين أداءها الاقتصادي والمالي، وتحسين موقفها لدى المؤسسات الدولية المانحة.
يضاف إلى ذلك محاولة اقناع دول الجوار الخليجي بجدوى ما قدّمته للبحرين من مساعدات مشكورة على أكثر من صعيد في مقابل ما هو منتظر منا كدولة لتحسين أداءنا الاقتصادي والمالي وصولا لبلوغ حالة التوازن المالي بحلول العام 2022، وهو أمر اشك شخصيًا في بلوغه إذا ما استمرت أوضاعنا الاقتصادية والمالية على ذات النهج الحالي الخطر وغير المنضبط، حيث تضيع ممارسات الفساد عشرات بل ومئات الملايين سنويا، وتهدر معها الكثير من الطاقات الكامنة، ونكتشف أن هناك حاجة للتوقف لمعالجة نهجنا الاقتصادي المستمر منذ سنوات والحاجة لضبط عجلة الاقتصاد وتنويع قواعده، بدلا من استسهال الارتماء في احضان اجندات صندوق النقد الدولي دون طائل، حيث أضعنا فرصًا مواتية كان الأجدر بنا استثمارها، علاوة على ما احدثته التحولات العالمية الجارفة من مخاطر تتجاوز قدراتنا بأميال ضوئية، والتي كان آخرها كارثة فايروس كورونا التي نعيش وسط تموجاتها المدمرة، وبات من الصعب التكهن بمآلات ما هو قادم إلينا من تداعيات، لاخيار أمامنا الا الاستعداد المدروس لها.
وبطبيعة الحال فإن كلًا من الحكومة والسلطة التشريعية بغرفتيها يتحملان مسؤليات جسام خلال الفترة القادمة، الأمر الذي يستدعي تحولًا نوعيًا في كيفية التعاطي المسؤول مع المالية العامة والاقتصاد الوطني ومقدرات البلد، وبدون مجاملة أو تخبط أو استخفاف، وهنا يجب ان نقولها بوضوح إن الحديث المتواتر حاليا عن التوجه نحو اعادة هيكلة الحكومة يجب أن يكون هذه المرة حقيقيًا وشفافًا حتى يكون قابلا للدعم شعبيًا، وأمامنا تجربة ناجحة ومتميزة لازلنا نعيش فصولها يقودها فريق البحرين بقيادة سمو ولي العهد في التعاطي مع ازمة مع فايروس كورونا، وهي تجربة اتسمت بالشراكة والتخطيط الجيد حتى باتت محل اشادة محليًا ودوليًا، ويمكن أن تكون انطلاقة جديدة للبحرين الجديدة في وجه التحديات القادمة، إلا أن ذلك يتطلب شراكة فاعلة وحقيقية لبناء مستقبل آمن ومزدهر لأبناء شعبنا، تلك مهمة تشوبها العديد من التحديات لكنها حتما ليست مستحيلة.
وعلى السلطة التشريعية خلال الفترة القادمة أن تكون أكثر استعدادا لخلق تلك الشراكة، وأن لا تكتفي باستمرار الضغط من أجل حلحلة العديد من الملفات، بل أن تطرح نفسها شريكًا فاعلًا ضمن معادلة جديدة، وهو أمر يجب أن تتسع له الصدور من اجل حاضر ومستقبل بلادنا وشعبها، فلنكن عند مستوى التحديات الضخمة القادمة الينا بسرعة.