كلما حلّت علينا المصائب استغلّ تجّار الدين الفرصة للتسويق لأفكارهم الظلامية، إذ ما أن بدأ فيروس كورونا بقطع الحدود الصينية منتشرًا بين الدول، حتى سارع البعض للاستخفاف بالإجراءات الوقائية المقترحة من وزارات الصحة وتحدّيها.
كما ظهر أنصار النقاب مجددًا إلى الواجهة مدعيّن أنه الحل الأنسب لمحاربة الفيروس، وأن الله نصرهم وكسر أنف الكفار بإجبارهم على التَّنقُّب، وهذه نماذج تلامس فئة معينة من البشر، يعتقدون أن الدين، بدون وقاية أو علاج أو اتباع الإرشادات الصحية، كاف لمواجهة حتى الأمراض المعدية، فقد أخبرتني صديقة لبنانية مسيحية أن الإقبال على صور “مار شربل” يتزايد في حالات المرض وظهور أوبئة كهذه، مع صور قديسين آخرين، كما يدعي البعض بظهورات العذراء مريم في مناطق معينة لرفع معنويات الناس، فالإنسان من شدة ضعفه يتمسك بأي شيء يُشعِره بالأمان.
أطلّ أطباء مختصون في الأمراض المعدية وأكّدوا أن الكمامات ليست آمنة تماما، ما جعل جماهير بأكملها تنسحب من الشوارع وتعتكف في بيوتها تفاديًا لأي احتكاك بمصابين. مما تسبّب في خسائر جمّة لصالات السينما، والملاعب، والأسواق المغلقة، والمسارح. كما ألغيت مهرجانات سينما، وفعاليات تلتقي فيها جموع من أهل الفن والأدب، وبالمقابل ارتفعت أرباح العملاقين “أمازون” و”نتفليكس”، وازداد إقبال الناس على قراءة الكتب، بشكل ملحوظ، فقد سُجّل ارتفاع نسبة مبيعات كتاب “الطاعون” لألبير كامو، بحيث قفز من المرتبة الواحدة والسبعين إلى المرتبة الثالثة على سلم المبيعات في إيطاليا، حسب جريدة “لاريبيبليكا”، كما قفزت رواية ساراماغو “العمى” إلى المرتبة الخامسة، لكن هذه المبيعات سجلت عبر موقع أمازون، أما النسبة الأعظم من المبيعات فقد كانت من نصيب مواقع رقمية.
بالنسبة لرواية كامو “الطاعون” فهي، حسب مراجع كثيرة، وليدة مخيلته، أمّا كيف خطرت بباله فكرتها فهذا يبقى حبيس الكتب باللغة الفرنسية، وبعض الترجمات العربية القليلة المتوفرة في بلاد المغرب العربي، لعلّ الجزائر أهمها، كون الكاتب جزائري الهوى والقريحة، فكل فضاءاته المكانية تعيدنا إلى المدن التي عاش فيها في الجزائر، مثل مدينة وهران التي ألهمته بتفاصيل هذه الرواية العظيمة، رغم أن محفوظات البلديات والمستشفيات فيها خالية إلى حد كبير من ادعاءات أي طاعون في أربعينات القرن الماضي، بحيث أن آخر مرة ضرب فيها الطاعون المدينة كان إبان الإحتلال الإسباني في القرن الثامن عشر. لكن عبقرية الكاتب برزت في جمعه لشخصيات متنوعة بين الديني والعلمي والإنساني، إنها الأدوار نفسها التي نراها تبرز اليوم في زمن الكورونا، كموقف الكاهن الذي فسّر الطاعون على أنّه لعنة إلهية يستحقها الناس لابتعادهم عن الرب، لكن حين يصاب القريبون منه بالمرض، يتغيّر خطابه في عظته الأخيرة، فيستعمل ضمير “نحن” مبعدا فكرة اللعنة، قبل أن يصاب هو الآخر ويموت. تنتهي الرواية باختراع المصل المنقذ، لكن كامو الشهير بعبثيته لا يكتفي بهذه النهاية السعيدة، بل يتركنا في صدمة أمام موت زوجة برنار ريو الطبيب الإنساني الذي تفانى من أجل مساعدة الجميع، والتي توجهت لفرنسا للعلاج من الطاعون، فتموت بمرض السل!
في رواية خوسيه ساراماغو نقرأ عن الحجر الصحي في مكانٍ معزول لمرضى أصابهم العمى بشكل غير مفهوم، ينتقل من شخص لآخر بمجرد النظر. في الحجر تروي زوجة الطبيب المصاب مثل البقية ما تراه بعد أن تدعي أنها مصابة بالعمى هي أيضًا، تروي فظاعات الإنسان التي يمارسها ضد بني جنسه، من ابتزاز يصل حد الإستنزاف التام لكل القيم السامية. لا هوية مكانية – زمانية للرواية، فقط تسليط الضوء على فقدان المبادئ المتحضرة للبشر، وكيف يتحولون إلى وحوش من أجل بقائهم على قيد الحياة، وواضح جدًا أن الكاتب بنى فكرته العظيمة هذه على مدى ترابط المبادئ الإنسانية بقوة البصيرة، لا قوة البصر.
هذا مختصر لروايتين حققتا مبيعات ساحقة مؤخرا، وقد أشرت في مقال سابق قريب إليهما، قبل معرفتي لأخبار تصدرّهما المبيع عالميًا خلال الشهر الأخير.
جاء كورونا ليدعم انتصار القارئ الرقمي على القارئ الورقي، بعد أن أصبحت عملية الخروج من البيت والتوجه للمكتبة واختيار كتاب مغامرة فيها الكثير من المخاطر، وبعد أن أصبح العدو الذي يتهددنا غير مرئي، فقد أثبتت الدراسات أن أكثر الأشياء الناقلة للفيروس هي النقود، ثم الكتب في المكتبات، كونه يعيش ثلاث ساعات على الأسطح، وكون قُرّاء الكتب كثيرا ما يُقلبون صفحاتها بأصابعهم المبللة بلعابهم بعفوية ودون انتباه.
إننا في زمن دونكيشوتي غريب نحارب فيه جميعًا طواحين الهواء، بسيوف خشبية. لهذا أعتقد أننا يجب بعد أن نقرأ “الطاعون” و”العمى” أن نضيف إلى قائمة قراءاتنا رواية “دون كيشوت دي لامنشا” للأديب الإسباني ميغيل دي ثربانتس سابيدرا، لأنها تنطبق علينا اليوم في المستجدّات التراجيدية التي يعيشها العالم كله.
فأجمل ما في هذه الرواية ويشبهنا كثيرا هو بنتيها الحكائية المبنية على شخصين؛ أحدهما رجل نبيل أصيب بلوثة عقلية من قلة النوم والطعام وكثرة قراءة قصص الفرسان، فظنّ نفسه فارسًا والثاني فلاح بسيط، صدّق جنون جاره وتحوّل إلى مرافق له. ونحن هنا بالضبط في موقع الفلاح المأخوذ بالسيد النبيل الخرف. كمُّ السخرية قاتل في هذه الرواية، وقد خطرت ببالي وأنا أقرأ قائمة الروايات التي تصدّرت المبيعات في أوروبا. إذ أنها ظلّت دومًا مطلوبة بين المئة رواية الأولى. أما عربيًا فبعد تصريحات متفائلة لرئيس اتحاد الناشرين العرب بسبب ارتفاع نسبة مبيعات الكتاب الورقي، عقب انتهاء معرض الكويت، وبروز جيل من القراء الشباب المتميزين بوعي لافت، هاهي الكورونا تعيد القارئ العربي بقوة للكتب المقرصنة، المنتشرة على شكل pdf عبر مواقع لا تعد ولا تحصى، وهذا يصعب معرفة نوعية الكتب المقروءة في هذه الفترة، ولكنه يسجل ركودًا واضحًا في سوق الكتاب الورقي.
لكأن الأرض توقفت عن الدوران فجأة، فتغيّر سلوك الناس، على غير توقع نحو الأفضل في مواضع وفي أخرى نحو الأسوأ. لكن عجلة الحياة ذهبت في مسار جديد لم نتوقعه، لقد أدرك الإنسان ضعفه أمام ترسانات السلاح التي خزّنها لحروبه فإذا به أمام عدو لا مرئي، فها هو مثل دونكيشوت عاجز وحالم في موقف لا يحسد عليه، وهو يواجه قدرًا من أغرب أقدار العصر التكنولوجي المتفوق، ألا وهو قدر العزلة، والحجر الذاتي، والعودة للكهف البعيد عن بني جنسه، إذ يبدو أن التكنولوجيا خدمته استعدادا لهذا الحجر.
ما نعيشه شبيه تماما بوقائع فيلم “عدوى” المنتج سنة 2011 والذي قام بدور البطولة فيه “مات دايمن”. الفيلم الذي سحب من قائمة نتفليكس أثار الكثير من الأسئلة على مواقع التواصل الإجتماعي، إذ أن قصته تنطلق من إصابة موظفة عائدة من هونغ كونغ بمرض يشبه الأنفلونزا، يتوضح فيما بعد أن سببه فيروس مرّكب، ناتج عن تلاقح فيروسات من الخنازير والخفافيش. محطات القصة مذهلة، في تتبع حياة المصابة الأولى وعلاقاتها مع القريبين منها وانتقال الفيروس إليهم، قبل الحجر عليهم لتقليص العدوى التي أصبحت تهدد البشرية.
لقد سبق الأدب والفن كل تطور إنساني بخطوات كبيرة، وقدّم قراءات للمستقبل تمامًا كما فعل مع الماضي، وهذا في حدّ ذاته مخيف، إذ أن بعض القصص والأفلام تُحضرنا لمغادرة الأرض إلى كواكب أخرى بعد كوارث أكثر رعبًا من زمن الحروب البشرية والفيروسية، فهل نحن أمام مرحلة وعي جديدة مفعمة بأسئلة جادة حول مستقبل الإنسان؟