هذه تأملات في الجائحة الجديدة المستجدة التي اجتاحت العالم في غضون الشهرين الماضين وتسببت في خسائر اقتصادية وتحولات اجتماعية وسلوكية هائلة، وأحالت البشر إلى كائنات خائفة ومرعوبة ومستريبة وفاقدة للثقة في الحاضر والمستقبل، والسؤال هو: هل كان العالم أفضل قبل كورونا؟ ثم هل سيكون أفضل بعد كورونا؟ بمعنى أن التغيير الذي أحدثه سيرافقنا حتى بعد انتهاء الجانحة واستعادة حياتنا الطبيعية؟
إن العالم الذي نعرفه دومًا يبدو مستقرًا وراكدًا وهادئًا وسائرًا بكل سلاسة نحو أهدافه وغاياته ومتسقا مع الثوابت والتشريعات والأعراف السائدة في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والبيئة والتربية والعلاقات الإنسانية، والتي ارتضاها الانسان ذاعنا وصاغرا ومرغما دون تفكير ودون نقا ، فنحن ومنذ زمن طويل داخل القفص، أو الفخ، المنصوب لنا بعناية كما اسماه وعرفه وشرحه المفكر آدم كرتيس في سلسلة أعماله الشهيرة المكتوبة والمرئية (the trap) ، وأكبرها فخ الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان وشعارات العدالة والمساواة والمشاركة في صنع قراراتنا ومصائرنا، وكل تلك المبادئ التي جرى الانقلاب عليها وتهميشها وعرقلة مسارها الصحيح في كل مكان في العالم، وضمن هذه المنظومة المحكمة تمّ اغلاق الأبواب والنوافذ على كل رياح التغيير القادمة من أي صوت مغاير ومختلف في كل مكان في العالم .
لماذا التغيير ما دمنا نعيش في أفضل العوالم الممكنة وإن كانت مصطنعة؟
هل شاهد أحدكم فيلم عرض ترومان؟ يحكي الفيلم الذي قام ببطولته جيم كاري وأنتج عام 1998 عن برنامج تلفزيوني يشاهده العالم، أما بطل البرنامج فهو آخر من يعلم، وحين يستيقظ ويدرك اللعبة وأنه محاط بالكاميرات التي ترصد حركته وتسيطر عليه تمامًا منذ لحظة استيقاظه إلى أن يغمض عينيه، يفرّ هاربًا من ميدان المراقبة ومن حياته المصطنعة، فيلاحقه المخرج ويتوجه إليه بسؤال فلسفي مهم يلخص مغزى الفيلم: إلى أين تريد أن تذهب، لقد كنت سببًا في سعادة المشاهدين، ولقد خلقت لك عالمًا أفضل وأجمل من العالم الحقيقي الذي كنت ستعيشه، فلماذا تريد التمرد عليه؟
سيطر الإعلام الكوني الموجه على أدمغة البشر، وأقنعهم في ظرف شهرين أنهم مهددون بالفناء، عزل الناس انفسهم خوفًا ورعبًا، وفرض الأمن سيطرته تحت مسمى حالة الطوارئ والسلامة الوطنية، لكن العزلة الأكبر كانت لمن يطرح السؤال المغاير، لمن يناقش ويستفسر ويربط ويحلل، من يجرؤ على قرع الجرس أو الاحتجاج أو الاعتراض سيجد نفسه أيضًا وحيدًا وربما منبوذًا وموضعًا للسخرية، وربما للمساءلة الأمنية وتشويش العامة والاستخفاف بالمحظورات الصحية، فالآلة الإعلامية الضخمة الواقعة تحت سيطرة القوى العظمى هي من يدير اللعبة من ألفها إلى يائها وحتى المنظمات الدولية التي يفترض بها النزاهة والصدّقية لم تخلُ من شبهات الفساد وتضليل الناس والإنحياز لشركات الدواء والتكنولوجيا.
وكي لا أسترسل في التفكير وفق نظريات المؤامرة، أطرح السؤال من منظور آخر: إذا كان “كورونا” جائحة حقيقية وليس لعبة خبيثة ذات مرامٍ وأهداف أبعد من تصورات البشر الواقعين تحت السيطرة الإعلامية الكونية، فإن هذا الوقت هو الأنسب للتفكّر والتأمل وللبدء في التغيير والإصلاح؟
لقد فتكت الأوبئة والأمراض بالبشرية في الأزمان المظلمة الغابرة، ولكن ليس في الزمن المعولم الذي وعد البشرية بالجنة العلمية والتكنولوجيا المريحة والصحة والجمال والعمر المديد، فهل زاد الماء على الطحين، كما نقول في أمثالنا ففسد كل شيء وانهار؟ وأدرك الجميع أن ما صنعناه من بيئة فاسدة وأرضٍ يباب خربة وعلاقات مختلة يوشك أن يغرقنا جميعًا، ألسنا في مركب واحد؟ من هم الناجين من هذه الكارثة بعد أن ساوى “كورونا” بين البلدان المتخلفة والبلدان المتطورة، الفقراء والأغنياء، المشاهير والمهمشين، الباقي هو العبر المستخلصة.
أول درس من “كورونا” هو أن البشرية تغرف من نبعٍ واحد، وتنتهي إلى مصب واحد، وإن ما نشاهده من اختلافات إن هي إلا أمور مصطنعة ومفبركة وغير طبيعية ونتاج التربية الخاطئة والإعلام الموجه. في جملة قرأتها ذات مرة، فإن كل الكائنات الحيّة على الأرض تكبر وتنمو لتكون ذاتها عدا الانسان ينمو ويكبر ويتعلم ويتربى لكي يكون شيئًا آخر لا صلة له بأصله وفصله وانسانيته.
درس “كورونا”، المنتشر والمتطاير سريعًا في أي مكان يهدد الصحة في كل مكان، الأول والأخير: لكي تنتشل نفسك يجب ان تنتشلني معك، وأي بلد مصاب سواء كان قريبًا أو بعيدًا يشكل خطرًا على الجميع في ظل كوكبنا الذي تحوّل بفعل العولمة إلى قرية كونية نتشارك فيها جميعًا.
ان العودة الى العالم المتشابك المترابط الذي كنا نعرفه قبل “كورونا” لن يكون ممكنا دون الاستحقاق الإنساني الذي تأخر طويلًا، وهو إرساء مبادئ العدالة والسلام والرحمة والتضامن والمساواة والمسؤولية والتشارك الحقيقي في السرّاء والضرّاء .