فيروس “كورونا” الذي بات الشغل الشاغل لجميع دول العالم، دون استثناء، استطاع في غضون أقل من شهر أن يؤجل كل أولويات الدول والشعوب إلى حين الانتهاء نهائيًا من سطوته وما أحدثه من رعب لدى الجميع. هذا الفيروس اللعين والقادر، بحسب التحليلات العلمية المعلنة حتى الآن، على الانتشار بنسبة الضعفين، وربما أكثرعن فيروس الانفلونزا العادية، وعلى التحول ومقاومة العلاجات المتاحة بصورة تجعل منه خطرًا متعاظمًا على الجميع. حتى الآن أعلنت الصين، بؤرة انتشار الفيروس الأولى سيطرتها على وقف انتشاره، بفعل جدّية التعامل الرسمي والشعبي هناك مع هذا الخطر الذي يهدد الكيانات والدول دون رحمة.
وفيما تغرق دول مثل إيطاليا وإيران وإسبانيا والولايات المتحدة وغيرها في مواجهة الآثار السلبية التي أحدثها، نجد أن هناك العديد من الحكومات والشعوب تقدّم مؤشرات ايجابية ونماذج متقدمة لكيفية التعاطي مع ما أحدثه ويحدثه من تداعيات على الرغم من قلّة خبراتها وضآلة مواردها، وفي وقت يتناسى العالم مؤقتًا العديد من بؤر التوتروالحروب والفتن كتلك التي دمرت اليمن وسوريا، ودولًا أخرى استبيحت فيها السيادة مثل فنزويلا وغيرها، وهي اوضاع هيأت لها على الدوام بعض الدول الكبرى والاستبداد العالمي المنفرد بناصية القرار الكوني، بعد انهيار النظام العالمي ثنائي القطب.
ونحن نحاول العبور جاهدين بأقل الخسائر الممكنة من هذه الأوضاع المهيأة جدًا لمزيد من التداعيات الجارفة التي لا نعرف بعد مآلاتهأ، والتي تتنبأ معظم الدراسات والتوقعات الاقتصادية والسياسية والبيئية من حولنا بأنها ستكون كارثية، وربما مدمرة لما تبقى من تماسك ممكن للنظام العالمي القائم، فإن ما يعنينا حقًا كشعب ودولة؛ في هذه الفترة المفصلية هو كيفية الحفاظ على وجودنا وكياننا وهويتنا ومقدراتنا بالحدّ الذي يبقينا أكثر صمودًا في وجه ما هو قادم إلينا بسرعة، وأن نتجاوز واختلافاتنا بالتفاكر والحوار والتوافق كشعبٍ في كيفية الحفاظ متحدين على ما تبقى لنا من خيارات قليلة.
ولعل أولى أولوياتنا هو التمسك بوحدتنا الوطنية والتركيز على ثوابتنا الجامعة التي تبقينا أكثر تماسكًا وتلاحمًا في وجه العواصف القائمة والقادمة أيضًا، فنحن كشعب وأمة لدينا رصيد حضاري وانساني لا يستهان به في قدرتنا على النجاح في تحديد خياراتنا اللاحقة، لكن ذلك يبقى رهنًا بقدرتنا أولًا على التمعن ببعد نظر أكبر مما هو قائم حاليا، ولعلّ اكثر ما يخيفنا، أفرادًا ومجاميع، هو تلك الدعوات المنفلتة أو التي سمح لها بالإنفلات من عقالها لممارسة جنونها والإفصاح مجددًا عن عقد النقص التي ابتليت بها، كما ابتلينا نحن كشعب بوجودها واستمرارها في العبث دون رادع في الضرب في وحدتنا وخياراتنا الوطنية.
هنا يمكنني القول إن بالإمكان تحجيم تلك الدعوات وحتى لجمها نهائيًا، لأن أمامنا ما يستحق فعلا التركيز عليه بشكل أكبر، دون السماح تحت أي مبررات بعودة العجلة إلى الوراء أو الاستخفاف بالمشاعر الوطنية أو حتى بالمضي أحيانًا في ذات السياسات والسياقات المرهقة من قبل أطراف وفئات أثبتت التجارب أن لها مصالح أنانية فردية وفئوية في الإستمرار في ذلك العبث إلى ما لا نهاية.
وعليه فإن أولى تجليات فهمنا لأهمية تعاملنا بشكل جديد مع ما يحوم حولنا من تحديات هو أن نبرز رفضنا التام لتلك الدعوات والممارسات المعيقة لمسارنا الحضاري، وضرورة لفظها شعبيًا ورسميًا والتأسيس لوعي وطني إيجابي ومغاير، وإعادة وضع الأمور في نصابها بطرق تكفل لنا جميعًا عودة التلاحم والوحدة توطئة لرسم خياراتنا المستقبلية بشكل يكفل تحقيق أقصى درجة من الرقي الحضاري الذي يجب أن يظهر للعالم أنه استفاد فعلا من تجارب المراحل السابقة، علاوة على ما أفرزته التجربة الصعبة التي نمّر بها حاليًا.
تلك مهمة لا تقبل التأجيل ولا حتى الابتزاز والتسويف من قبل طرف على حساب آخر، ولنتعظ مما تفرزه تجربتنا الوطنية الناجحة حتى الآن في مجابهة فيروس “كورونا”، وما استدعته من ضرورة الاعتماد بشكل أكبر على قدراتنا وطاقاتنا البشرية وامكاناتنا ومواردنا الكامنة، واستقلالية قراراتنا ووحدة مختلف القوى المجتمعية في مواجهة خطر داهم يتهددنا، حتى لا تبتلعنا خيارات الآخرين وأجنداتهم ولكي لا تضيع بوصلتنا الوطنية في متاهات العبث والتشظي دون طائل.