عصمت الموسوي
لا أحد يعرف كيف وصل العامل الآسيوي سونيل إلى منزل تلك العائلة البحرينية. ربما استقدم من الخارج لمساعدة ربة الأسرة المريضة أو ربما كان هاربًا من كفيله، الأمر الأرجح أنه طرق الباب عارضًا تقديم خدمة رعاية الحديقة أو غسل السيارات أو غيرها من الخدمات التي يؤديها بثمن زهيد عمال التأشيرة الحرة في بلدنا والذين يجوبون الأحياء والطرقات بحثًا عن مهن غير مستدامة فتتنوع ظروف عملهم وأقدراهم، وقد يحالفهم الحظ فينتهون إلى مصائر لم تخطر ببالهم يومًا. اعتذرت سيدة البيت ل “سونيل”، شكَرها وسألها أن تحتفظ برقم هاتفه إذا دعت الحاجة.
كانت سيدة البيت امرأة ميسورة ومترفعة، انتظرت العرسان طويلاً ووضعت الشروط الكثيرة والمتطلبات المعقدة فخسرت كثيراً من المتقدمين لها، حين أوشك خريف العمر أن يداهمها وتزوجت كل صويحباتها، قبلت على مضض بزواج سريع وغير متكافئ جاء عبر خطبة تقليدية أقامت حسرة طويلة في نفسها، بيد أنها قررت أن ان تٌنمي هذا الزوج وتُطوره وتصلح حاله الهزيل لجعله جديراً بها وبأحلامها وطموحاتها، وأما الزوج فقد كان شابًا بسيطًا يعمل موظفًا بإحدى الوزرات ويحمل أفكارا تقليدية جداً، ويرى الزوجة كما كان يرى أمه قانعة راضية بواقعها ومطيعة ولا همَّ لها الا خدمة زوجها وطاعته .
عاش الزوجان تحت سقف واحد، أما احلامهما ورغباتهما وتطلعاتهما فقد كانت في مكان آخر.
كان الزوجان يستعدان لرحلة سفر صيفية معتادة حين انزلقت رجل الزوجة اثناء نزولها درج البيت فسقطت وكسر حوضها فاحتاجت إلى علاج فيزيائي طويل وكرسي عجلات متحرك، والزوج الذي أخفق في السابق في اخضاع زوجته في ادارة الصراع الزوجي لمصلحته، وجد فرصته في استعادة نفوذه واسترداد مكانته المضيًعة وقهر كبرياء زوجته وعنادها ومعايرتها له ولأهله “ومستوانا ومستواكم” “وعائلتي وعائلتكم”. فالزوج الذي كان صفراً، صار رقمًا مهمًا بعد حادث السقوط هذا، وهنا برزت لديه نزعة الانتقام والتشفي، فكان يصرّ على أخذها إلى كل مكان، كالأسواق والمعارض لكي يشاهد الناس الزوجة المستسلمة المحتاجة المسكينة المغلوبة على أمرها والتي يقودها زوجها – ذلك النكرة الذي لم تعترف به وبحاجتها إليه قبل هذا اليوم – إذ صارت تنتظر عونه ومساعدته في كل تحركاتها.
في ذلك الصباح، أعدّت الزوجة كرسيها وسألت الزوج أن يأخذها إلى أحد المجمعات التجارية فأبدى موافقته وترحيبه، ما أن توسطت باحة المجمع حتى توقف دفع الكرسي، التفتت وراءها فلم تجد زوجها، لا أحد يعلم هل تعمد الزوج تركها وحيدة وذهب للاختباء في مكان آخر ولجعلها فرجة للناس، أم أن أمراً مباغتًا قد داهم الزوج في تلك اللحظة، انتظرت الزوجة زوجها نصف ساعة لكنها بدت لها كدهرٍ طويل وممل، أصيبت بالإرباك والحرج وحاولت تلافي عيون المتسوقين وفضولهم إذ بدت كمجسم إعلاني حي مثير للدهشة والفضول، وراحت تهاتف رقمه مرات متتالية دون أن تلقى استجابة، وتساءلت هل تبلغ القسوة حد اهدار كرامتها وتعريضها لهذا الهوان؟ .
عندما لاح من بعيد لم تسأله اين كنت، كانت ممتلئة باليقين أن الامر لا يتعدى كونه لعبة أخرى لإذلالها، التزمت الصمت إلى حين وصولها إلى بيتها فاستجمعت قواها وأعملت فكرها محاولة إيجاد خطة محكمة للرد، لكن غادرتها الحكمة والتعقل والهدوء إزاء استهتار زوجها وعدم اكتراثه وعجزه عن إيجاد مبررمنطقي لما حدث، اختارت الزوجة أقسى العبارات والكلمات والحكايات الأكثر إيلامًا وتجريحًا، قذفتها في وجه الزوج بانفعال شديد دون وعي وانتباه، فهدّد بتطليقها أو الاعتذار وطلب الصفح منه فرفضت وأمعنت في عنادها.
ذهب الزوج إلى الشيخ الذي عقد قرانهما طالبا النصح فأثناه عن الإقدام على الطلاق في حالة الغضب، حين عاد الى البيت وجد الزوجة وقد غارت المكان إلى بيت أهلها، توسًط الأهل مجددا من أجل المصالحة بينهما، وعادا إلى البيت على مضض وتواصل مسلسل المشاحنات، ومعايرة الزوج بأصله وفصله وأهله ومستواه، انفصلا في الغرف واستمرّ الجفاء بينهما، صار الحوار بينهما بالإشارات وبالمسجات الهاتفية، وكل منهما يفكر كل يوم كيف يضرّ الاخر ويكيد له وينتقم منه ويختلق المناسبات ويحبك المؤامرات. قرّر الزوج في لحظة صفاء أن يعتذر لزوجته ويجبر خاطرها المكسور ويبدأ صفحة جديدة، فالزوجة الثرية لا يتركها أو يطلقها إلا احمق أو معتوه، ضمرها في سره، نصحها بالقول: انزلي من كبرياءك وتواضعي وتعلمي تبادل الحاجة مع الآخرين، بيد أن الزوجة رأت في محاولة الصلح مجرد مناورة وملعوب آخر لتكسير رأسها واخضاعها وفق شروطه فرفضت مساعدته “الله لا يحوجني اليك”، “عندي فلوسي التي تغينني عنك”، “الفلوس أهم من الزوج”.
وجد الصلح طريقه إليهما أخيرا وفق شرط فرضته الزوجة ولقي قبولا لدى الزوج وهو أن تستعين بعامل آسيوي يخدمها ويلغي حاجتها الى زوجها، فهاتفت العامل الآسيوي سونيل الذي أتي مسرعا بدراجته الهوائية، وما هي إلا أيام بسيطة حتى أصبح مقربا من الزوجة مما خلق الغيرة في نفس الزوج، فجنّ جنونه وراح يتحين الفرص ويختلق الأعذار لطرده من البيت: “فشلتينا مع عشيقك”، “الدنيا كلها تتكلم علينا” إلا أن الزوجة أبقت سونيل، واستعادت بوجوده بعضًا من سطوتها وجبروتها ومنحها هذا التكتيك متسعًا من القوة والمناورة في معركتها مع زوجها، وتحول سونيل إلى شبه “ضرّة” للزوج.
في مطلع الشتاء التالي تعرض الزوج لإصابة عمل حادة فاحتاج إلى اجراء جراحة لانزلاق غضروفي حاد، عاد إلى البيت من مشفاه مستعينا بعكازة ثم بكرسي العجلات المتحرك، كانت الزوجة وقتها قد تعافت تماما وتخلصت من كرسيها ووضعته في مخزن البيت، وليس يعلم هل رغبت الزوجة في مساعدة زوجها في محنته تلك أم أنه مجرد ادعاء، نفضت الغبار عن كرسيها المتحرك وضبطت أزراره ارتفاعا وانخفاضا وفق حاجة الزوج، وطلبت أن تجره بنفسها كنوع من رد الجميل، شعر الزوج أنها لعبة أخرى للسيطرة والاذلال والاحتقار المعتادة منها وليست تعاطفًا أو اخلاصا زوجيًا مفاجئًا، فرفض مساعدتها.
هكذا جرى تبادل الكرسي المتحرك بين الزوجين المتباغضين والمشحونين حقداً وغلًا وكرهًا لبعضهما، فمرة يقوده الزوج ومرة تقوده الزوجة، وفي كل جولة صراعية بينهما تتجلى كل أنواع المكائد والدهاء والرغبات الدفينة والمتوارية ويتبدى ذلك الخضوع والإنكسار والتسليم والطاعة والجبروت والتعنت والبطش على وجه كل من يأخذ موقعه من الكرسي، فإذا كان قائما وواقفا على رجليه بدا ممتلكًا لقانون اللعبة وممارسة كل أنواع التسلط والغطرسة، وإذا كان جالسًا على الكرسي بدا ضعيفًا ومستسلمًا وقانعًا بقدره.
هل انتهى صراع الزوجين المأزومين والمعذبين بعد قراراهما المشترك بالاستغناء عن خدمة بعضهما البعض تماما؟ ربما، فقد أضمر كلاهما رغبة عميقة ودفينة، هو ينتظر موتها كي يرثها وهي تنتظر موته كي تقترن بمن تراه أهلاً لها، لكن العمر امتد بهما ونسيهما الموت طويلا، نهشتهما الامراض واستقر كلاهما على كرسيه المتحرك وقد استعان كل منهما بعامل آسيوي لمساعدته، أما “سونيل” فتولى قيادة المنزل وأصبح الآمر الناهي فيه.