زهراء المنصور
يرتبط مصطلح الكفر في الغالب بالوقت الحالي تحديداً بمن يتراجع عن الدين الاسلامي، وتحديداً من الفرد الذي يكون غالباً مولوداً به، وليس مسلماً “مستجداً” أو أنه اختار الإسلام بديلاً عن دينه الأصلي. وقد يكون هذا الارتباط مبنياً على فتاوى واجتهادات التكفير التي طالت أشخاصاً معينين بسبب إعلان موقفهم من جزئية قد تتعارض مع آخرين يرتأون في أنفسهم وكلاء الدين الحقيقيين والغيورين عليه، فيحق لهم إلحاق تهم كبيرة بأضدادهم. وبينما تأخذ هذه التهمة تدرجات عدة في الدين – كما ينبغي لها – وكما يرى العلماء في منطق هذه الأمور عادة، فالكفر درجات. فهناك “كفر دون كفر”، أي بما يفسر بأنه كفر دون الخروج من الملة، وتكفير الفعل دون تكفير الفاعل، وأيضاً الضوابط التي على أساسها يقوم فعل التكفير، حيث إن له تبعاته.
وطوِّع مصطلح التكفير لإقصاء الآخر تحت مظلة الإسلام، وحيث طبق هذا المعنى في فترة مبكرة منه، استمر مع تغير الزمان وثبات الدين الإسلامي في المنطقة. فكان هذا الإبعاد /الإقصاء لصالح الحكم، لذا كانت الفتوى حاضرة في خدمة رجل الدولة للتخلص من أعدائه ومعارضيه(1). ولأنه الدين الذي يؤمن المسلمون فيه أن الدنيا مرحلة مؤقتة تحضيراً للآخرة، وكل عمل في الدنيا هو في صالح الحسنات/ السيئات التي يجازى بها بالجنة أو بالنار حسب أعماله، سيكون من الطبيعي أن يحظى القائمون على هذا الدين ممن يفترض أن يصلوا باجتهادهم ودراستهم إلى مكانة دينية كبيرة تسمح لهم بتسيير أمور العامة.
ولو استطعنا حصر بعض أشكال التكفير ورفض الآخر في مجتمعنا، فلا بد أن يوصلنا هذا إلى سبب/ أسباب تكفير البعض حداً يتخطى المألوف من الدين، إلى الأعراف المجتمعية مثلاً المتعلقة بقناعات راسخة عمرها عشرات السنين وربما أكثر. في قضية اللون المختلف أو المذهب المغاير، أو غيرها عند غلاة التكفير، وهم من وجهة نظري الشخصية ينقسمون إلى نوعين: نوع نشأ وترعرع على هذه المفاهيم وآمن بشدة بما تلقنه من علوم ومفاهيم أسرية/ مجتمعية أنها الثوابت التي تحكم الكون ولا يمكن أن تتغير، خاصة إذا كانت في صالح وضعه الاجتماعي. أما النوع الآخر فهم من فئة الدينيين الذين أخذوا على عاتقهم استخدام الدين كذريعة لمآرب شخصية على مقاسات مختلفة تحتمل المواقف المتغيرة، ويمكن أن ينتمي هؤلاء- بحسب درجتهم الدينية و”المرونة” في تكييف الشرع لصالح ولي الأمر – كما أطلق عليهم علي الوردي في وقت سابق طويل مضى “وعاظ السلاطين”، وكأنه يستشرف المستقبل بما سيتفاقم عليه الوضع، كما هو الآن.
ولأن الفئتين تلحان على وتر الطاعة العمياء والتنفيذ بأمر الدين، فالكل ينفذ حسب مرجعيته الدينية للولي أو الشيخ، وما عدا ذلك سيكون مخالفاً وربما مرتداً، وربما تلصق به صفة “العلمانية” بوصفها مصطلحاً مرادفاً للكفر!!
ولا يخفى على أحد التفسيرات المختلفة للقرآن الكريم، والتي قد تتباعد بشكل كبير بين الطرفين، بشكل يوحي أن هناك أكثر من كتاب مقدس للمسلمين، وسبب ذلك: التأويلات التي تجر المعنى لصالح أحدهما، فيستند عليه ويؤيده تعزيزاً لمكانته الاجتماعية/ الدينية التي يبني عليها أكثر من منفعة عابرة، وهو ما يسمى عند البعض باجتزاء النصوص الظاهرية. وهذا نجده في موقف الشيخ سعيد الغبرا من الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص، فقد ذهب لإسطنبول من أجل تحريض السلطة الدينية المتمثلة بالسلطان عبدالحميد مناهضا تجربة القباني (1833-1903)، وذهب بنفسه إلى السلطان لإيقاف ما وصفه بـ”الفسق والفجور”، فــ”هتكت الأعراض وماتت الفضيلة ووئد الشرف واختلط النساء بالرجال” (2). وأدى تحريضه هذا إلى حرق مسرح القباني ومغادرة الأخير من دمشق إلى مصر. وليس الغبرا إلا نموذجاً للعقلية الدينية الرجعية التي تقيس بمعيارها وتعمم. فيما يرى سعد الله ونوس أسباب هذه الحملة على القباني هو ظهور شخصية هارون الرشيد على المسرح، وهذا مدعاة للتفكير في إجهاض فكرة ثورة التغيير الاجتماعي آنذاك. (3). وهاهو الغبرا يأخذ أشكالاً مختلفة منذ ذاك الحين وحتى وقتنا هذا.
فإن كان كتاب الله مختلفاً تأويله في بعض الآيات التي يعتقدها أصحاب المذاهب سبباً مجدياً للخلاف “الجوهري” وسبباً وجيهاً للفرقة والقربة إلى الله بوصفهم “الفرقة” الناجية الموصوفة، فهم المصطفون من الله، وكل من لا يشبههم مقصيون/ مُبعدون، مما يصنع “هوية نرجسية استثنائية”، ومن شأن هذه الهوية المغلقة على ثوابتها ومحرماتها أن تقولب العقول لتصنع النموذج الأول للسلف الجامد بالمعنى السلبي، أي لا يتقبل التجديد المنطقي، لذلك خضعت أحكام عصرية لتغيير في القرار الذي حولته السلطة الدينية إلى قرار جمعي بمنطق التحريم، وسرعان ما تغير للعكس بفعل النظام الزمني والتغير الاجتماعي الكفيلين بتغيير الكثير من الفتاوى التي في مجملها محاربة وقلقة من الجديد القادم، ومحاولة لتضييق كل ما يمكن أن يفتح أفقاً أوسع للناس. فالتحريم الذي يجعل من الفتاوى وسيلة سهلة لإنهاء الجدال في موضوع ما، وإحكام السيطرة، يكشفه الزمن، ولنا في فتاوى تحريم: مدارس البنات/ كرةالقدم/ عباءة الكتف/ التصفيق!!/ مكبرات الصوت/ التصوير/ وليس انتهاء بتناول الطعام بالملعقة! (4)
وبناء على ما تقدّم من التعريف بمصطلحات الكفر والتكفير، لابد لنا من التعرف على المفاهيم الأخرى المترتبة على هذا منح اللقب، الذي يكاد أن يصبح “مجانياً” ومتاحاً لكل من لديه سلطة دينية، وربما غير ذلك، إطلاق هذه التهمة التي تحمل من التبعات ما لا يحتمل في بلادنا العربية. لذلك نرجع إلى الدين وتطبيقه كما ينبغي له، والتمسك بالأحكام التي قد تعني جوراً لآخرين يعيشون بنفس المجتمع ويخضعون لذات الأحكام التي تحكم المجتمع لسبب مقدر له لا خيار له فيه. فالمساواة لا تعني العدل دائماً، في الوقت الذي تدفع الأديان إلى مفهوم “الرضا” عن الرزق المرتبط بالنعم من الله/ الرب عز وجل، وضرورة الحمد والشكر لتدوم النعم، وتقديراً لنعم الله علينا.
لذلك فإن من الأمور الشائكة التي تثير الحيرة في الحياة الواقعية وعلى خشبة المسرح، التعرض للون الأسود المرتبط بالسلالات الزنجية، ومصدرها بعض مناطق القارة الأفريقية، على أساس أنه الطبقة الأقل المرتبطة بالعبيد والخدم والطبقة الوضيعة في المجتمع – كل مجتمع – فلا يرتبط هذا المفهوم عند العرب أو المسلمين، بل إنه يطال الغرب الذين تحرروا من الفوهة الضيقة بالنظر إليهم كملونين حتى 1862، كما أعلنها لينكولن وقتها. وعلى الرغم من القوانين التي تشرع الحق لكل مواطن بإنسانيته، تظل القوانين الشفهية – المجتمعية – هي الأقوى، وتستند غالباً على “جينات” التعامل مع أصحاب البشرة المختلفة، على تعامل من سبقوهم معهم. وقد تكون شخصية “عطيل” هي الأشهر أيقونياً عن صورة الأسود في المسرح، كالشجاعة والإقدام والبطولة، لكنها تذبل وتذوي لمجرد أنه من أصول مغربية وبشرته المختلفة، وهذا بحد ذاته سبب يكفي لازدرائه وإقصائه.
كذلك هي صورة الأسود في المسرح البحريني/ الخليجي التي تظهر فيها العبد الذي يسعى لنيل حريته في وقت الاستعمار، كما في مسرحية “مجاريح” من تأليف إسماعيل عبدالله واخراج ناصر عبدالرضا، ونرى فيها الممثل عبدالله سويد في حركة ملفتة توثق ليحصل على الصك الذي يحرره من واقعه، مع إقران ذلك بزمن المسرحية؛ بوقت الاستعمار وزمن الغوص واللؤلؤ. وفي سياق آخر، أظهرت رواية الكاتب البحريني الراحل خالد البسام (ثمن الملح) والمستمدة من وثائق التقارير الإنجليزية، التي عثر عليها في مكتب الهند بالمكتبة البريطانية في لندن، حول العبيد وأوضاعهم في الخليج. وكذلك كتاب “تجارة الرقيق في الشرق الأوسط” تأليف سين أوكلاغان، عن حياة “العبيد” في المجتمع البحريني, وعن طموحهم بالتحرر الذي يقود أو يؤكد نفس سياق عرض “مجاريح”، صك الاستعمار بالحرية، والذي يهدف قطعاً لمآرب أخرى تهدف إلى ترسيخ العرف والطبقية بحكم اللون في أبشع أشكالهما، دون أن يكون أكرمهم عند الله “أتقاهم” كما في القيم الإسلامية الأصيلة، ودون أن يكون البطل كما في “مجاريح” يمثل معاناة لونه، لا يحظى الممثلون ذوو البشرة السمراء/السوداء غالباً إلا بأدوار توظف لونهم لخلق كوميديا. أليس هذا تكفيراً للآخرين وجحدهم حقوقهم؟
وكما يعد اللون/ العبودية قالباً مغايراً عن الأغلبية المسيطرة، فحق لها أن تعامله بمغايرة أيضاً، يأتي الاختلاف/ الإنكار/ التكفير/ لأشخاص آخرين من نفس نسيج هذا المجتمع، وليس من الغرب الذين يطلق عليهم عامة الناس من الجهل والتصغير أنهم ببساطة “كفرة”! تأتي هذه الصفة للمختلفين في الدين/ المذهب، تأتي واضحة في الطبقة الاجتماعية التي أوردتها المجتمعات ذات الثراء البترولي، والتي حصدت مستواها الحالي بلا تدرج، وبشكل سريع، من النقيض للنقيض، مما عزز مفهوم الطبقية بشكله الفاحش غير المقبول لاعتبارات الثروة وما يليها من تبعات. أيضاً، من أشكال التكفير: القبليّة المتعصبة، كعادة العرب في الجاهلية في التفاخر المرعب بما فعله السلف وما ملكوه، وما تمتلكه الأجيال اللاحقة التي تتوارث التفاخر وحفظ الماضي، بلا فهم واعٍ لما اعتادوا أن يسمعوه ممن قبلهم. وهنا نسأل كيف اشتعلت فتنة التكفير؟
وفي الوقت الذي تصنف فيه أشكال التكفير السابقة تحت سقف عرف المجتمع وتقاليده، يشتغل هذا المصطلح بشكل واضح في التقسيم الديني والمذهبي تحديداً، الذي يجعل من تصنيف الهويات حسب الأسماء/ المناطق/ اللهجات أمراً محسوماً بمعنى الــ/مع والــ/ضد، ولكل ذريعته المبررة بالحرص على مظاهر الدين الإسلامي الذي تمثله طائفته بوصفها الطائفة “المختارة”، وفي المضمون أسباب أخرى غالباً ما تكون تأجيجاً سياسياً وتجييشاً دينياً يؤيده.. فكيف بدأ فتيل الفتنة؟
كل شيء لم يكن على ما يرام تماماً، وحتى لا ننطلق بصورة مثالية مبالغ فيها، كما في نشرات الأخبار الجامدة والتقارير المعلبة، كان هناك رفض/ إنكار للآخر (تكفير)، لكنه قطعاً كان في تواقيت تاريخية معينة لها مقاصدها. فعلى سبيل المثال: تعرض اليهود البحرينيون إلى مضايقات أدت إلى رحيل أفراد منهم إلى خارج البلد، لأسباب متعددة مرتبطة بالهزيمة في 1967. وأيضاً في قضية الطائفية التي تثار منذ سنوات طويلة، والتي عمل الاستعمار على تأجيجها عملاً بسياسة (فرِّق تسُد)، والتي تستمد من مذكرات المستشار بلجريف بعضاً منها، وليشهد التاريخ على أن هؤلاء الناس لم يكن الخلاف المذهبي يوماً بينهم, فليسوا منزهين عن صفات إنسانية سلبية، لكن المناطق المشتركة تشهد أن الخلافات الشكلية التي حدثت كانت لأسباب بعيدة، فيما حشر “الاختلاف” ليكون ذريعة كافية لإذكاء الفتنة ليس إلا.
ومن الأمور التي تحيلنا إليها القضايا المذهبية مسرحياً أيضاً، المسرح الحسيني/ الكربلائي الذي يقوم على مسرحة التعازي الحسينية، من بعد واقعة “الطف” والتي يقيمها المسلمون من الطائفة الشيعية في موسم شهري محرم وصفر من كل سنة، عبر المجالس التي تتم فيها قراءة الواقعة حسب الروايات والكتب، وهذا الشكل المستمر أدى إلى تفتق فكرة تجسيد الأحداث عبر الشكل المسرحي الحالي، مع الأخذ بالاعتبار أن العقلية الإسلامية حسمت موضوع الصراع وحرية التفكير بالشكل الذي عرف به المسرح الإغريقي (5)، لذلك فإن الفكرة في أنه إن غاب الصراع فإن الدراما ستغيب تلقائياً، فلا دراما بلا صراع، الذي يعرفه الباحث شرجي “أنها قضية محسومة ربانياً في العقلية الإسلامية، هذه العقلية لم تستسغ فكرة الصراع، فقاد هذا إلى التخلي عن فكرة المسرح” (6).
لذلك استمرت هذه الطائفة الشيعية بتقديم هذا الشكل الدرامي/ المسرحي لهذا الطقس الديني، مع مزج هذه العروض بما يتوافق عليه من مضامين سياسة أو اجتماعية، فتصنع منه شكلاً تراه الطائفة الأخرى متعارضاً مع مفهوم الأشياء لدى الطائفتين! كأن الكتاب المقدس لدى المسلمين قد نزل في نسختين لا تتشابهان ولن تتفقا! وكأن بالتاريخ المستمد من كتب تراثية واستقطاع النصوص التي تتكيف ومقاسات الطرفين ورواياتهم هي اليقين بذاته، دون التعرض لتحليل عقلاني أو التفكير فيما يوحد الكلمة، انتصاراً لما جبل عليه كل طرف بأنه الفرقة “المختارة”، كما يشير المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري أنه “ليس من طريق للتجديد إلا تمثل الفكر الإنساني قديمه وجديده، والاطلاع عليه بتعمق، مع دراسة مختلف تيارات التراث الإسلامي دراسة نقدية، وعدم الانحياز لتيار فيه ضد آخر. فلن يتم إحياء للتراث بتقطيع أوصاله وبتر أعضائه، فإما أن نحييه بحقيقته الكاملة القابلة للنقد، وإلا فدعوة إحياء التراث لن تحقق هدفها الحضاري..”. وما عدا هذا المنطق فلن نتقدم خطوة إلى الأمام ونحن نفضل بعضنا بالتمايز فيما لا فضل لنا فيه، ونستميت من أجل الدفاع عنه! وهنا نسأل: هل نحن طغاة؟ طائفيون؟ أم تكفيريون؟؟!!
الهوامش
1. علي أحمد الديري, نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية, مركز أوال للدراسات والتوثيق, بيروت, الطبعة الأولى 2015. ص 23
2. أحمد شرجي, المسرح العربي من الاستعارة إلى التقليد, دار ومكتبة عدنان, بغداد, 2013, ص 60
3. نفس المصدر السابق, ص 60
4. من تقرير مصور عرض في نشرة التاسعة على قناة MBC.
5. أحمد شرجي, المسرح العربي من الاستعارة للتقليد, مصدر سابق ص 47
6. نفس المصدر السابق, ص 55