بقيت بغداد ولازالت الشاطئ الاخر لحلمٍ جميل مستعاد من حياةٍ سابقة. أربعون عاما تفصلني عن ذلك التاريخ حين انتظمنا كطلاب في جامعة بغداد العريقة، وكما يذكر د.هاني الراهب في روايته “رسمت خطا في الرمال”: “في تاريخ العالم ثلاث مدن خرجت من دوائر الجغرافيا والسياسة الى أفق الأساطير والرموز الثقافية. اثنتان منها هنا: بابل وبغداد باب الإله، وعطية الإله، والثالثة هي روما”.
أربعون عاما وأنا في شوق دائم لتلك المدينة، تعلق في ذاكرتي رائحة الهواء وزوايا الطرقات وطعم الأمكنة التي زرتها وقضيت احلى أيامي فيها، الاعظمية، الشورجه، الكاظمية، باب المعظم، شارع الرشيد، السعدون، كربلاء، النجف، كرادة مريم … إلخ.
كل هذه الأمكنة شاخصة أمامي عندها تيقنت بأن رواية كرواية إنعام كجه جي (النبيذة) كفيلة بايقاظ كل هذا الشجن والحنين للعراق ونكأت جروحا لم تندمل بعد لما آل اليه الوضع فيه، بعد أن نهشت جسمه الضباع وتكالبت عليه الجيوش من كل الأصقاع بينما كان ينظر اليه بمهابة وعزة وكرامة في زمن قد ضاع.
رحت ألملم حنيني عند قراءتها وعادت بي الذاكرة لتلك الأيام الجميلة التى لا تنسى، وأكثر ما راود ذاكرتي بشحنة الرعب هو ما فعله ويفعله الحكام بشعوبهم وأوطانهم ليجلبوا الدمار لتلك الأوطان ويحيلونها الى رماد.
وبرهافة الأطفال تجاه جماليات العالم أصغيت لكل كلمة ولكل صفحة من تلك الصفحات الثلاثمائة والخمسة وعشرين مستمتعاً بالأسلوب والفن الروائي.
برشاقة وبراعة نجحت إنعام كجه جي في إثارة وإنعاش الذاكرة ومشاغبتها الجميلة لها وأخذتني الى الأجواء التي لازمت فترة من أجمل وأروع الفترات في حياتي، فكانت “النبيذة” خير معين لاستنطاق ما قد خبا على مرّ هذه السنين الطوال واستعادة شريط تلك الفترة.
رواية تقاطرت فيها الأحداث لحقب متباعدة من الزمن ولشخصيات جمعتهم هموم الحياة ومصائب الأوطان وكوارث الأنظمة ليلتقوا فى المنفى بعد ان عجز الوطن عن احتوائهم، فالشخصيات الثلاث تاج الملوك عبد المجيد الصحافية صاحبة مجلة “الرحاب” المشاكسة والجسورة، منصور البادي زميلها الفلسطيني في إذاعة كراتشي الذي هاجر إلى فنزويلا ووديان الملاح عازفة الكمان في الأوركسترا السمفونية العراقية التي عوقبت من قبل إبن رئيس النظام البائد وأصابها صمم في الأذن لازمها طوال حياتها بسبب تمردها على نزواته.
يفعل الزمن فعله في كل شخصية من هذه الشخصيات ليرووا ما عاشوه من خلال حبكة فنية رائعة لسيناريو رائع أوصلته إلينا الكاتبة ببراعة وتصوير دقيقين.
رواية يجتمع فيها الحب بالموسيقى والشعر بالجاسوسية في توليفة لا تخطر على بال، كما أن السياسة حاضرة من خلال الأحداث السياسية التى مرت على العراق منذ الإستعمار الإنجليزي ونضالات الشعب العراقي في تلك الحقبة وإعدام قيادات الحزب الشيوعي العراقي وعلى رأسهم سلمان يوسف (فهد) ورفيقيه زكي بسيم وحسين الشبيبي المعروفين باسميهما الحركيين حازم وصارم الذين أعدموا في العام ألف وتسعمائة وتسع واربعين.
ما يميز هذه الرواية هو أسلوبها الممتع، عبر سرد الأحداث بلغة جميلة وأحيانا باللهجة العراقية المحببة، وبالشعر والغناء العراقي تصيغ إنعام روايتها وبتمكن واضح كي تترك للقراء متعة القراءة، وهم يتابعون تسليط الكاتبة للضوء على حقبة مهمة من تاريخ العراق، حيث نجحت في رسم ملامح شخصياتها بدقة وأعطت لها أدوارا كما لو أن روح الحياة قد دبت في كل شخصية منها، فأبرزتهم كما لو أنهم احياء بيننا.
فى مهب الحنين قضيت وقتا ممتعا لاستعادة ما ولى من زمن لن يعود بعد أن دمرته الحروب وحاصرته الجيوش التي أحالت البلد الى خرائب، وجثم على صدور شعبه حكام قساوة ظلمة.
بعد قراءة آخر سطر من تلك الرواية أحسست بزفرة من الألم تقبض على صدري لما آل اليه العراق وشعبه العريق، حيث أصبح فيه المواطن جثة مرقمة ومختومة لتسلم للأهل ليدفنوها.
فشكراً للدكتور حسن مدن في إشارته لي بقراءة (النبيذة)، ومعنى هذه المفردة كما وجدته في معجم المعاني الجامع: صفة ثابتة للمفعول من نبذ، ملقي، مهمل، متروك، منبوذ.