ابتلى مجتمعنا ببعض من أطلق عليهم، او أطلقوا على انفسهم في خروقات علنية توصيفات ساطعة من نوع ناشط، محلل، مفكر، خبير، توسعت تنويعاتهم واتسعت رقعتهم بلا حساب، وبتنا نجدهم في كل مجال وميدان ومناسبة، اكتضت بهم الساحة المحلية، منهم من امتطى منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم من احترف الظهور في قنوات فضائية، ومنهم من بات زبونا يستضاف في مجالس، ومنهم من اصبح بقدرة قادر كاتبا ومفكرا وإعلاميا، كل واحد من هؤلاء يحلل، وينظر، ويتوقع، ويفسر، ولكل دوافعه المعلومة وغير المعلومة، أسوأ هؤلاء الذين تحركهم مآرب خاصة او يحركون من قبل مخططين في الكواليس، وعلينا ان نلاحظ بان البعض من هؤلاء وليس كلهم يمتلكون موهبة فذة في التضليل وخلط الحق بالباطل وكل ما يأتي بمعية..!!
الحديث عن ظاهرة تتنامي بشكل لافت، ظاهرة تستحق وقفة بقدر ما تستحق ان تخضع لنقاش عام، وهي ظاهرة الألقاب العلمية المزيفة والنشطاء الذين اتسعت رقعتهم وظهروا لنا بصفات وتسميات مختلفة، ناشط سياسي، ناشط حقوقي، ناشط اجتماعي، ناشط إليكتروني، ومحلل ومفكر واعلامي وخبير، ألقاب امتهنت وفقدت قيمتها ودلالتها ومعناها، بعد ان اصبح كل من هب ودب يستظل بهذه الصفة او تلك، وفي استباحة فجة للألقاب دون مانع او حرج، وكأننا امام صناعة جديدة، صناعة ألقاب، صناعة باتت رائجة ومربحة هذه الأيام، صناعة منحتها في كثير من الحالات مواقع التواصل الإليكتروني قوة وأعطت المنخرطين فيها أجنحة للطيران ونجومية زائفة للبعض، وبالقدر ذاته استخدمت تلك الألقاب والصفات بعض وسائل الاعلام التي أعطت توصيفات لمن ليس لهم توصيف محدد للظهور امام المشاهدين او المستمعين او القراء..!
وجدنا نشطاء في كل شأن ومجال، منهم من اصبح زبونا دائما لدي بعض الفضائيات، والبرامج الحوارية، والمجالس، والندوات، والمؤتمرات الداخلية والخارجية، واذا كان موضوع هذا المؤتمر او تلك الفعالية اقتصاديا فهو محلل اقتصادي، واذا كان سياسيا فهو خبيرا سياسيا او استراتيجيا واذا كانت الفعالية ذات طابع حقوقي فهو حقوقي، واذا كان ثمة نشاط عام فهو ناشط وفقا لنوعية النشاط، ولضرورات التسويق السياسي او التجاري او الديني، او الطائفي… الى آخره، اصبح الكل يفهم كل شيء، ويتحدث ويفتي في كل شأن وكأنه خبير او مرجعية او نقطة استدلال علينا ان نستند اليها في كل أمر فيما هم في الحقيقة والواقع يتمتعون بخواء فكري، لا فكر، ولا منطق في الكلام، ولا معلومات صحيحة..!!
ألقاب وصفات أصبحت وظيفة لكثير من الباحثين عن دور، او اللاهثين وراء موقع، او شهرة، او مكانة، او منفعة، او «رزة» او مكان في المشهد، او هاربون من بطالة ويسعون الى ما يثبت حضورهم وتأكيد ذواتهم ونرجسيات بعضهم، او انتهازيون، الانتهازية عندهم اسلوب حياة.. والإشكالية تكمن في انه ليس هناك مواصفات او شروط او معايير يبنى على أساسها وبموجبها هذه الصفة او تلك، وكأن هذه الصفات أصبحت من لا مهنة له، مهنة لا تتطلب مؤهلا، ولا ثقافة، ولا إمكانية، بقدر ما تحتاج في الغالب الى «فهلوة»، ومهارة في المراوغة والكلام الفاضي او المعدوم من القيمة، وقدرة على قذف الحمم في وجه اي اختلاف، ولا تسألوا عن المنطق والمصداقية في الكثير مما يقال من قبل هؤلاء الذين يمكن القول من دون مراوغة بأنهم احد أصول بلائنا..!!
اتفق مع من دعا في الأسبوع الماضي الى وقفة حقيقية لحملة الألقاب المزيفة بلا رادع وبلا قانون قبل ان يصلوا بنا الى مرحلة التفاهة التامة (مقال الألقاب العلمية المزيفة والبحث عن شهرة..هوس ام ظاهرة.. الكاتب عبدالله بوخالد – الايام 15 يوليو)، واتفق مع من اشار الى ان هناك من استسهلوا حمل لقب «اعلامي»، وان هؤلاء اكتضت بهم الساحة بلا حسيب ولا رقيب لمجرد ظهورهم في احدى تطبيقات التواصل الاجتماعي، وان هؤلاء – وهذه مصيبة – كثيرا ما نجدهم ضيوفا في وسائل إعلام مرموقة وندوات وفعاليات كبيرة، واتفق بان الحاجة باتت ملحة لموقف حازم تجاه المتطفلين على مهنة الاعلام، وانه بين حدود الإعلاميين ومدعي الاعلام لا توجد منطقة حرة، ولا قواسم مشتركة، وانه شتان بين المهنية والعمل المنهجي، وبين الترويج القائم على بيع الأوهام (مقال لقب «إعلامي» بلا حسيب، عبدالمنعم ابراهيم – جريدة الوطن -15 يوليو)، ونعلم انه قبل ذلك هناك كثر طالبوا بوقف هذه المهزلة، ووقف استغباء عقول الناس بالمحاولات المستميتة للتضليل والخداع مما يضفي على هذا الواقع شيئا من المرارة والعبث، وهو عبث يفرض طقوسه على الملأ..!
نتساءل، ماذا يعني مفهوم الناشط، وماذا تعني القاب خبير، اعلامي، حقوقي، مفكر الى آخره..؟!
السؤال بصيغة اخرى، ماهي المعايير والمتطلبات لكي يكون الانسان مستحقا بجدارة لأي من تلك الصفات والألقاب..؟!
سؤال آخر يفرض نفسه، لماذا أصبحت تلك الصفات والألقاب مستباحة الى الدرجة التي تشهدها اليوم ساحة العمل العام، وعلينا ان نلاحظ ازدياد عدد الذين يقفزون الى الواجهة بهذه الصفة او تلك هذه الأيام وكأن كل واحد منهم يحيط بكل شيء علما..؟!
هذه الأسئلة وغيرها قيد التداول تفرض نفسها وكلها تبحث عن اجابات وافية تشفي الغليل وان كنا على يقين بأنها ستظل في ضيافة المجهول وهذا أمر يوقظ الشكوك المفتوحة ويثير الدهشة حول مدى الجدية في مواجهة هذا الملف، نأتي الى صفة الناشط بشكل عام وفي أبسط توصيف هو على اي شخص ينخرط في نشاط عام يرتبط بقضية ما، ويبذل في سبيل هذه القضية وقتا وجهدا وربما مالا، دون ان ينتظر اي مقابل، ويمكن القول أيضا ان الناشط هو الذي يعمل في سبيل إحداث تغيير او تطوير سياسي او حقوقي او اجتماعي.. الى آخر القائمة..
أسوأ انواع هؤلاء النشطاء أولئك الذين يصرون على تقديم انفسهم بمظهر انهم اصحاب رأي وفكر، فيما هم يكذبون – ما وسعهم الكذب – يتمنطقون بمنطق أجوف، وثرثرات فارغة، يفبركون، يختلقون الوقائع، يشوهون الحقائق، يكررون الكلام الذي يستهدف زج الناس الى حالة من السفه او الى سلوك القطيع، ومعهم أولئك المبتلين بتضخم الأنا، منزوعي الدسم، جل همهم ان يبرزوا في المشهد كشخصية عامة بأي صورة وتحت اي لقب او صفة، والأسوأ على الإطلاق مدعي البطولات الفارغة، أولئك الذين لا يفكرون الا في الأضواء والجلبة ولفت الانتباه، يفتشون عن ثغرات لإشعال الحرائق وافتعال المعارك، والحمد لله كما جاء او برز بعضهم فجأة اختفوا ولم يعد احد يتذكرهم، سوق متقلب ومتوحش، دون ان ننسى الذين أصبحت عندهم ولازال كلمة «ناشط» مصدرا للارتزاق، يغيرون المواقف، يرفعون الشعارات حسب المصالح، والأدوار، يستضافون في أفخم الفنادق، وتقدم لهم المكافآت لكي يظهر في قناة فضائية خارجية، او لحضور ندوة او مؤتمر تحت صفة ناشط سياسي او ناشط حقوقي او خبير استراتيجي الى آخر القائمة..
ذلك لا يعني ان هناك نشطاء، هم بحق نشطاء، طاقات موجهة ومنظمة ومخلصة يحصد المجتمع والوطن ثمار نشاطاتهم، وفي واقعنا الكثير من أسماء الناشطين في ميادين عدة، لمعوا وبرزوا وكانت ولازالت لهم إسهامات طيبة، وأعمال معتبرة ومحترمة ويعتد بها، نشطاء اصحاب فكر ومبادئ يدافعون عنها، ولهؤلاء منا التحية والتقدير، ولأولئك منا لهم التمنيات بالهداية..!!