تصعقنا نتائج فريق الأبحاث في تاريخ الجينات البشرية بجامعة أوكسفورد على أننا أقارب و أبناء عائلة واحدة، و كأن الأمر جديد علينا، فقبل هذه النتائج العلمية الدقيقة المبنية على دراسة الجينوم البشري و ما يحويه من بناء توصل العلم لتفكيكه و معرفة أسراره، كنا نعلم علم اليقين أننا جميعا أبناء آدم و حواء، و أننا نشترك في هذه القرابة، لكن ما ينخر جسد البشرية ليس القرابة بل الإختلاف في المفاهيم، و تقاسم ممتلكات الله على أرضه بعد أن صعب على آدم و زوجه البقاء في الجنة بسبب الأطماع نفسها.
قصة قابيل و هابيل سواء صدقها البعض و كذّبها البعض الآخر تفسر إلى أي مدى لم تكن قرابة الأخوة مهمة بين أول أخوين في التاريخ، لقد قتل الأخ أخاه في مشهد يجعل محرّكات العقل كلها تتوقف دفعة واحدة. فقد كانت الأرض و ما عليها ملك لأبيهما آدم، و للعائلة الصغيرة التي ترفل في ممتلكات لا أول لها و لا آخر. لا نفط، لا غاز، لا حسابات في البنك، لا ورثة، و لا بورصة تحرق أعصابهما، لا عملات و لا صعود و لا هبوط في أسعارها، كل شيء شاسع و جميل، و هادئ، و لا منافس لهم فيه، فلماذا كان الخيار القتل؟ و لماذا لا تتمة للقصة التي أبدعت بعض الأديان في سرد تفاصيلها؟ تنتهي الجريمة بتعلم طريقة دفن الآخر، من غربان أرسلها الله لموقع الحادثة، و لا شيء أكثر من ذلك يا للغرابة ..! لا حساب و لا عقاب و لا تتمة لحياة آدم و حواء بعد إختلال توازن عائلتهما ، إذ تبدأ الهوّة الأكبر لشرح السلوك البشري الذي نحا نحو الجريمة لا نحو التأسيس، و نحو التدمير الذاتي لا نحو ترميم الذات . و يصبح الشرخ عميقا في العلاقات البشرية و مستمرا رغم بشاعته.
“خريطة أطلس” الجينية التي تعتبر أذكى الخرائط على الإطلاق على المستوى العلمي ، تبدأ بتتبع آثار الحياة البشرية إنطلاقا من الحاضر إلى منبعها البعيد في الماضي يوم ظهور أول إنسان في أفريقيا، و استخلاص نتائج مرعبة بهذا الشأن، فقد قال الدكتور سايمن مايرز الباحث في قسم علوم الجينات البشرية في جامعة أوكسفورد أن ” الحمض النووي ” الدي أن آي” يمتلك القدرة على سرد التاريخ و الكشف عن أدقّ تفاصيل الحقب الماضية للبشرية.”
يمكن معرفة مواقع الحروب على الخارطة الجغرافية و مخلفاتها، و ما تبعها من تجارة للرقيق و نزوح و هجرات، و لعلّ الأمر يوضح هنا بالتأكيد كيف تتغير ألوان البشر بخلط جيناتها، و كيف تتغير اللغات بالنزوح و الهجرات، و تختلط الأنساب، بل حتى المعتقدات تتزاوج و تتوالد و تتهجن و تنجب معتقدات و معتقدات، و من هذه التغيرات الطبيعية جدا تنشأ حلقة الصراعات على كوكبنا الأخضر. حلقة تشبه حلبة قتال بين أقارب من عائلة واحدة.
لماذا لا تتوحّد البشرية رغم هذه الدوافع و الحقائق؟
لماذا لم توحدها صرخات السلام المنبعثة من حناجر رجال الدين و العلم و الإقتصاد و غيرهم؟ أليس خطابهم مقنعا؟ أم أن الفطرة البشرية لا تتفق مع السكينة و السلام؟
أطرح السؤال على نفسي و أنا عاجزة عن فهم معادلة أخرى حققت السلام المرجو دون عناء كبير. لقد بقي اللبنانيون مثلا أوفياء لصوت فيروز المسيحية بكل طوائفهم رغم رحى الحرب التي طحنتهم و فتتهم و شتتهم في الوطن و خارجه، بل إنها أكثر من ذلك، لقد وحدت العرب على إختلافهم، كما توحدوا بصوت الست أم كلثوم، و توحدنا بأصوات أخرى جاءتنا من خلف البحار و القارات. ألم نحب ليندا دي سوزا و داليدا و خوليو إغليزياس، و شارل أزنافور و تينا تيرنر، و راي تشارلز؟ و آخرون؟ لم نر إختلاف دياناتهم و ألوانهم و توجهاتهم السياسية، كانت حريتهم الشخصية لا تعنينا، و كنا في آخر بقاع الأرض نستمتع بأصواتهم و أغانيهم، بل إن بعضهم جعلنا نتعلم ما تيسر لنا من لغة فولتير، و بعضهم سهل لنا الإنطلاق في عوالم لغة شكسبير…
كان الفن و أهله الحضن الذي يجمع العالم في كنفه، و لم يكونوا أبناء الزمن الجميل لوحدهم، نحن جمهورهم أيضا كنا و لا نزال أبناء زمن لم يتلوّث بالتوجيهات الجديدة الخارجة من أدمغة تعطلت بسبب التطرف.
و أعتقد أننا قرأنا الشعر و الرواية و دعمنا أبحاثنا بدراسات غربية طلبا للعلم و لم نفكر يوما في المؤلِّف ( بكسر اللام) بقدر ما فكرنا في نتاجه، لم يكن واردا في زمننا أن نتساءل هل فريدريك نتشه بروتستانتي مثلا، و لم نهتم بانسلاخ جون بول سارتر عن مسيحيته و تأسيسه لفلسفته الوجودية الخاصة، قرأنا سيمون دي بوفوار أيضا و أخذنا منها جموح أفكارها و قوتها و بقينا على مبادئنا التي نستمد منها قوتنا الشخصية و عشنا حسب قناعاتنا، إذ لم يؤثر فينا أبدا أسلوب حياتها رغم معرفتنا به.
الخلاصة في هذا أن الإبداع و النتاج الفكري يوحدان العالم من حيث لا نعلم أو نشعر. و لا بأس بالإعتراف اليوم أننا لا نزال متوحدين رغم الفرقة التي تبعدنا عن بعضنا بعضا في فصول القتال و الخصام. و ليس وهما إن قلت أن خارطتنا الجينية حتما تحمل عناصر متناهية في الصغر وضعها الخالق فينا لنحب الفنون و يبقى خيط رفيع بيننا يربطنا ببعضنا بعضا حين يعصف بنا العنف السياسي و الطائفي و ما شابه. و إلاّ ما الذي يجعلنا نتفاعل مع مقطوعة موسيقية أرمنية أو تركية أو هندية؟ أي عامل مشترك يجمعنا بثقافات تختلف عنّا إن لم تكن تلك الجينات المحملة بأسرار الخالق نفسه، ” و نفس و ما سوّاها، فألهمها فجورها و تقواها” صدق الله العظيم.
و إن لم تكن الأدلة في تلك الخارطة الذكية، فإنها لامحالة ستنكشف، نحن كائنات مركبة و دقيقة و لم تتوضّح كل أسرار دواخلنا لنا لكنّنا حين نتبع فطرتنا و نتحرر من قيود تفرض علينا من أصحاب السلطة بكل أنواعها نتصرف بسلام أكثر.
إكتشاف بنية الحمض النووي البشري تعود إلى العام 1953 لكنها لم تبلغ دقة النتائج التي توصل إليها علماء اليوم الذين يطمحون إلى أمور كثيرة بعضها مرعب إن تحقق، كتعديل جينات المقاتلين للحصول على رجال مثل ” ترميناتر” ، و تعديل جينات المرضى للقضاء على أمراضهم، و تعديل جينات ألأغبياء للحصول على عباقرة أكثر… و تعديل كل الكائنات لتناسب المستقبل الغريب الذي ينتظرنا .
لكن لا أدري إن خطر ببال عباقرة البحث أن الفن له تأثير السحر، و إن كان نابعا من الإنسان فإنه إلى الإنسان يعود، و حسب ذائقة كل فرد، فإن للفن لمسته التي تخفف الأوجاع، و تضعف التطرف و تفتح البصيرة على مصراعيها، و تقلّص المسافات بين الأزمنة، و قد تجعل الزمن الجميل يتوقف بنا ما أمكن حتى نمتلئ به، و يفتح عقولنا على شاشات تبث الحقيقة بشكل أجمل، و عسى حينها نقتنع دون ضغوطات دينية أو علمية على أننا جميعنا عائلة واحدة.