تسمع أصواتاً مألوفة لمجلس عزاء في طريق ما.. يسأل رفيقي عن المتوفى، فيجيبه أحدهم باقتضاب: “مرا”! قاصداً في إجابته “أنثى”، نكرة، حسب اللغة العربية التي تعتبر كل اسم شائع في جنسه لا يختص به واحد دون الآخر. وبينما تقال لفظة “مرا” المستمدة من “المرأة” في مناطقنا، تصير مستهجنة في بعض الدول العربية، فتأخذ شكلاً من أشكال الشتيمة التي تستهدف من خلالها الأم، أو الأخت، أو حتى الزوجة، في مرادفة تعني الحط من قدر المقصود، للارتباط الشَّرطي المباشر والصريح بين “الشرف” والأنثى.
وهذا الحرص في إخفاء اسم المتوفية عن عابر مار، مثل رفيقي، لم يكن صدفة مرتجلة، بل حتى في إعلانات التعزية التي تتصدر وسائل الإعلام والتبليغ عن متوفى ما، سيكون ذكر الاسم كاملاً، مع بيان مركزه الوظيفي أو الاجتماعي، وكتابة أسماء أولاده الذكور، وسيكون الإعلان فخماً وذا سند لو أقرن هذا بوظائف يعتبرها المجتمع “راقية” ترفع من شأن المتوفى ونتاجه الذكوري الفاخر! أما إذا كانت أنثى، فيمكن أن يظهر اسمها الكامل على اعتبار أنها زوجة “ياء”، ووالدة “ألف” و”ميم” و”طاء”! .
وفي الحالات التي -قطعاً- لا إحصاءات لها، لكنها الغالبة في هذا المشهد الذي تطالعنا به الصحف اليومية، أشدها مرارة تلك التي تكتب أنها أرملة الراحل فلان –الذي يذكر اسمه بالكامل- بتفاصيله السابقة أو الحالية إذا كان على قيد الحياة، في ازدواجية مستغربة تظهر بأشكال اعتدنا عليها، وسيُكتب في الإعلان أيضاً أولادها من الذكور فقط، مع تذييلهم بمراكزهم الوظيفية -إن كانت تدعو لتفاخر لا مكان ولا مناسبة له في الإعلان!
التعزية قد تكون النهاية الحزينة لمخلوقة كُتب عليها أن تكون بلا اسم معظم أوقات حياتها، لكن في هذه الحياة عاشت بنت فلان منسوبة لأبيها، أو أخيها، أو زوجها، وإذا أنجبت بكرها بنتاً فلن تنادى باسمها قطعاً، وسينتظر الجميع أن يأتي الذكر لتنادى به، ويفخر والده بالجملة العبثية في أن “يحمل اسم والده”، وكأن الأنثى لن تفعل هذا له، كونها أقدمت على الزواج من آخر سيفرح أهله أيضاً بإنجابه من سيحمل اسمه. وبذريعة الاحترام المقبولة أيضاً، تُنادى النساء باسم الابن البكر، حفظاً للمقامات الاجتماعية، وكذلك فرق السن؛ الذي سيجعل من الاسم المجرد أسلوب مناداة قليل التهذيب. وهكذا تدور دائرة المجتمع المسكون بالأعراف والمحكوم به، والإناث اللاتي تلدن الإناث والذكور، لتدخلن في ذات الدائرة من تلقين ما يعتقدون، وممارسة نفس الوحشية والإجحاف، وهو ما يعني -ضمنياً- التشييء والتمييز العنصري الذي مورس عليهن.
في الوقت الذي تخضع فيه الأنثى، منذ زمن بعيد، لاختبارات في الحياة لا تتعلق إلا بالنوع الاجتماعي (الجندر)، منذ الوأد وقبله، وكل ما شملته هذه المرحلة من استلاب واستضعاف. أما بعده، فهو فصل آخر طويل، لا يزال مستمراً، رغم كل محاولات المجتمع المتحضرة والمصدرة لأفكار تقدمية، وحداثة تمارس بشكل فاعل، مساير لحقوق الإنسان، وضماناً للالتحاق بالسبق الدولي في هذا الشأن. وللحق؛ فإن انتصار هذه القوانين قد أعطى الأنثى حقوقاً كانت في السابق تقع في خانة المستحيل والطموح والتمرد، وأمست منذ وقت غير قصير، تعمل وتختار شريكها، وتستقل مادياً، ولها حقوق وواجبات المواطن -مع الأخذ بالاعتبار بعض المعايير-.
لكن فوهة الأعراف غير معروفة المصدر تطلق الأحكام لمدد تصل إلى عمر كامل، وتدخل في تفاصيل غير مفهومة من الناحية المنطقية. فكيف لحياة إنسان أن تكون على هيئة Hide، كما في الحاسب الآلي، التي تختفي متى ما أراد صاحبها رغم حاجته إليها؟ ولماذا الأنثى هشة؟ لِمَ هي نقطة ضعف عائلتها؟ لِمَ الشرف ينسب إليها؟ لِمَ يقع عليها العبء الأكبر في سمعة العائلة؟ لِمَ الشتائم الذكورية -تحديداً- مؤلمة، ومتصلة بالكرامة، ومحفزة للغضب الشديد، حين تتصل بنساء البيت؟ هل هي أسئلة بدائية يفترض أن صلاحيتها انتهت منذ وقت بعيد؟ لِمَ لا زلنا نخضعها مِراراً لمقياس الحياة التي يختارها مجتمعها لها، بمعاييره، وشروطه المتغيرة؟
ولا حاجة أن نعود إلى التاريخ الإسلامي أو غيره، الذي يتخذه البعض حجة رديئة لمثل هذه الممارسات. فالديانات -عموماً- تذكر الأسماء صريحة، ولن نعاود تكرار ما بحث فيه آخرون، وبما مفاده أن الدين في قوانينه لم تتقاطع مع هذه المسألة. لكننا نرى أحكام الدين تخرج على هيئة فتاوى وردود “شرعية” لأسئلة تميل إلى سذاجتها، وتنمُّ عن اتكالية السائل، مثل تلك التي بعثت تستفسر عن “إخفائها” لاسمها في كثير من الأحيان، وتسأل إن كان يعد هذا من الكذب؟! فيجيبها بما يعزز الإخفاء، مع التنويه ألا يتضمن إسقاط حق لأحد، ولا ظلم أحد.. وفاتَه أن يذكر لها أنها تظلم نفسها!
ويسوق الكاتب المسرحي هوشنك وزيري فكرة “النكرة” في مسرحية “فلانة” البطلة، التي لا يُعرف لها اسم طول العرض، والتي أدتها آلاء نجم باقتدار كبير، في التعريف عن نفسها لجمهور تخاطبه بشكل مباشر. “أنا اسمي فلانة. نعم فلانة. هذا اسمي، أبي أسماني فلانة، وزوجي كان ینادیني فلانة. ولماذا تستغرب؟ إنه اسم كبقیة أسماء خلق لله. یقال بأنه كان لي اسم آخر، لكنني لم أهتم كثیراً. (تقترب من الطاولة) لیش تضحك؟ إي شو یعني؟ أي أصلاً كان أبي ینادي نسوة البیت كلهن بفلانة. تعالي یا فلانة، روحي یا فلانة، خذي یا فلانة، جیبي یا فلانة، أسرعي یا فلانة، تعالي هنا بسرعة یا فلانة”. فكرة فنتازية متصلة بواقع فلانة/الأنثى، التي عبَّرت عن بقية الشقيقات، والأم، والدائرة الكبيرة خارج هذا النص المسرحي من جهة، وبوجود الأب “باسم قهار”، الذي نطق بضع جمل محدودة ونموذجية للغاية، بنبرة صوت مدروسة ومقتبسة من الواقع، جعلت من شخصيته مرجعاً لكل مونولوجات “فلانة”، وسبباً رئيسياً للانتكاسات في حياتها.
كما أن وجود ممثل آخر صامت طوال العرض، هو “عمر ضياء الدين”، عبَّر عن وجود الذكر المادي، دون أن يكون ذا أثر فاعل في الحياة. فلا ارتباط بينه وبين الحدث أو الحوارات في العرض المسرحي، إلا ببعض الحركة والضبط الإيقاعي. ولعل من المهم الإشارة إلى أن هذا العمل قائم على يد اثنين من الذكور؛ هما المؤلف وزيري، والمخرج حاتم عودة، وليس كما جرت العادة أن تكون مثل هذه العروض نسائية/نسوية، وهو ما يفسر تلقائياً بالصلة المباشرة بين المشكلة أو الحدث المستعرض وبين “القائمات” عليه، كتعبير حي عن المعاناة. لكن مصدر قوة عرض “فلانة” نابع من ذكورته المحايدة، والمجانبة لواقع مر تعاني منه نساء كثيرات في الشرق والغرب أيضاً.
ومهما كتبت الأقلام وكررت في هذا الموضوع أو غيره، مما يصب في دائرة النسوية التي يرتكز جلها على اضطهاد الإناث -ولو بشكل ضمني غير مباشر- لن يصل للوصف الحقيقي الواقعي، ليس فقط في المجتمعات الصغيرة الواقعة ضمن نسيج اجتماعي يُحكم بالعادات والتقاليد التي يعتقد لمن يمارسها امتدادها الديني “المتخيل”، بل يمكن أن تمتد للنشاط الاجتماعي والسياسي المعلن، كما حصل قبل عامين أو أكثر، في توجه بعض القوائم الانتخابية في بلد عربي لانتخاب مجالس محلية، فتم شطب أسماء وصور المرشحات، واستبدالها وإلحاقها باسم الأب أو الزوج! فإذا كان النشاط العام يؤيد هضم حقها، وتقليل حجم حضورها وأهميته، فهل يُلام الأفراد إن سلكوا ذات النهج؟
إن الحديث عن تحمُّل الأنثى كل المسئولية المرتبطة بأنوثتها بالشكل السلبي الآنف، يحمل في ثناياه جوانب إيجابية لا تُعد. فجنس الأنثى مرتبط على الدوام بالجانب اللطيف و”الناعم” من الحياة، كما وجود الذكر الذي يحقق معادلة سوية. أما مسألة تفريغ الإناث من أسمائهن، فصار وقت مقاومته والقضاء عليه، رغم أن هذا الوقت لم يكن موجوداً بتوازنه الصحيح والمطلوب على مر الزمن! ومهما كانت الآراء المتباينة حول أغراض المتنبي من كتابة الشعر، فلن يختلف أحد على فصاحته وحسن تعبيره -في المجمل- وحين رثى إحدى قريبات سيف الدين الحمداني بشعر، قارب فيه معنى إخفاء الاسم:
فما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٌ
ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
فمتى -أيها العرف- متى تكفُّ أذاك عن نون النسوة؟