التأمينات الاجتماعية.. بوحدتنا ننتصر #ارفعوا_أيديكم_عن_التأمينات
لن نحتاج للكثير من المبررات والشرح لفهم مسببات ردات الفعل الشعبية الرافضة لمشروع اصلاح نظام التقاعد في البحرين، والذي اقترحته الحكومة مؤخرا، والذي بسببه اعيدت قضية أوضاع التأمينات وصناديق التقاعد للواجهة، ربما هذه المرة بشكل اقوى، نظرا للمخاوف الحقيقية التي استنفرت مشاعر الناس ومخاوفهم في ظل الهجمة الشرسة على العديد من المكتسبات والتي يقف خلفها بكل تأكيد نهج الحكومة المساير بلا هوادة وترو لتوصيات صندوق النقد الدولي ودون تحسب لحجم الارتدادات الشعبية المنتظرة، خاصة بعد ان تقدمت الحكومة بمشروع التعديلات هذا في الوقت الضائع من عمر الفصل التشريعي الرابع داعية السلطة التشريعية لتمريره بطريق الاستعجال دون مبررات موضوعية، وهي التي كان لديها كل الوقت لرفع تلك التعديلات باكرا وحتى تمريرها، لكنها لم تفعل.
وهذا يظهر تحسب الحكومة تحديدا لردات الفعل المنتظرة فيما لو أعطي المشروع الوقت الكافي لدراسته بتأنٍ، وهي التي لم تتعود ولم تُعودنا على الشفافية والمكاشفة حول أوضاع التأمينات على وجه التحديد، ويكفينا أن نفهم مغزى صمتها الطويل عن إجراء الإصلاحات المنشودة، على الأقل منذ اقرارها أمام مجلس النواب منذ العام 2004 بكل ما ورد في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية الشهير من توصيات ومعالجات مهمة.
جوانب عديدة تجدر ملاحظتها والتأكيد على اهميتها في تداعيات هذه القضية الهامة جدا، انطلاقاً من الرفض الشعبي الحاسم ومن مختلف الشرائح والفئات والتي توحدت ربما للمرة الأولى منذ فترة ليست بالقصيرة دفاعا عن مصالحها المباشرة، ما يظهر الحيوية المطلوبة شعبيا والتي قادتها قوى سياسية ومجتمعية، كان المنبر التقدمي في طليعتها مع قوى وشخصيات ونخب ومؤسسات المجتمع المدني توّحدت جهودها في الوقوف بصلابة لتقول كلمتها بكل قوة وصدق مبدية مخاوفها الحقيقية، والتي للأسف لم تتلق تفهما في البداية من جانب الحكومة، وكذلك من مجلس الشورى المعين، الذي لم يكتف بعض أعضاءه بتمرير المشروع، بل بالغوا في الاساءة للناس مظهرين موقفاً سيظل ملازماً ومسيئاً لدورهم المنتظر منهم ولن ينسى من ذاكرة الناس بسهولة بكل تأكيد، كما أن عليهم أن يفهموا جيداً أن نظرتنا واصرارنا على اهمية ايجاد نظام تقاعدي عادل وشفاف ومستقر، تتجاوز بكل تأكيد المفهوم الضيق لدى البعض منهم حول مسألة المناكفة السياسية والتهويل والمبالغة.
إن ما تحقق من اجماع شعبي رافض لتمرير المشروع بتفاصيله وبالكيفية التي رفعته الحكومة للسلطة التشريعية، يمكن البناء عليه للمستقبل في مناقشة العديد من قضايانا الحيوية والحساسة خاصة تلك التي تلامس المصالح المباشرة للناس والوطن، وما اكثرها، وهو درس علينا جميعا أن نستخلص منه العبرة، في ظل ما هو متاح من متغيرات وتحولات، فلا يكفي من وجهة نظري ان يكون لنا موقف مسبق من قدرة أو عدم قدرة السلطة التشريعية على الإنجاز والفعل، بل يجب أن نعطي أهمية معتبرة للرقابة الشعبية ودور المؤسسات والنخب ومؤسسات الضغط، حتى في أشد حالاتها انتقاصا، كما هو حاصل الآن.
وبحكم معايشتي للحياة البرلمانية في فترة مهمة من تاريخ هذا الوطن استطيع ان أقول بوضوح وصدق أن قوة الموقف الشعبي أو ضعفه تنعكس بشكل أو بآخر على واقع الأداء البرلماني للمجلس والنائب ايضا، فكلما كان الموقف الشعبي والأهلي متابعا متيقظا ومتفاعلا فإنه حتما سينعكس على نوعية وجودة الأداء النيابي، والعكس صحيح أيضاً، وأنا هنا لا أغفل أبداً حجم الصلاحيات المنتقصة، والقيود على المجلس المنتخب، ولديّ الكثير من الأمثلة التي يمكن أن ادلل بها على ما أقول، ولا تتسع المساحة هنا لذكرها بكل أسف.
لقد جاءت استجابة ملك البلاد لمناشدات القوى السياسية والأهلية تعبيراً عما ذهبنا إليه من ضرورة التيقظ جيداً لما يطرح من مشاريع في ظل الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة التي نعيشها، حيث بادرت قوى المجتمع بشكل موحد للدفاع عن مصالح ومستقبل الأجيال للحفاظ على ما تحقق من مكتسبات، فمجرد دعوة رأس الدولة لضرورة اخضاع مشروع نظام التقاعد المقترح من الحكومة لمزيد من البحث والتقييم والأخذ بكل ما طرح من مخاوف ومرئيات واراء من قبل مؤسسات المجتمع وقواه ونخبه المعنية، يؤكد مجدداً الدور الحيوي الذي يمكن ان تلعبه هذه القوى المجتمعية إذا ما توحدت واهتدت إلى أهمية وقيمة تشكل الاجماع الوطني دفاعا عن المكتسبات الوطنية أياً كانت تلك المكتسبات.
إننا بذلك نعطي قيمة أكبر للعمل الوطني الموحد والمؤطر للقوى المجتمعية دون مغالبة أو ابتسار أو حتى انتقاص لأي جهد مخلص، الأمر الذي يعطي المجتمع دفقا جديدا للمستقبل، لعل أهم تجلياته تبرز في تنامي وعي الناس بضرورة الدفاع بحضارية واستماتة عن مصالحهم، وبالتالي عليها أن تحسن الاختيار مستقبلاً لممثليها الحقيقيين للدفاع عن تلك المصالح في المجالس المنتخبة وفي الحياة العامة وداخل المؤسسات، وبذلك نستطيع أن نعزز من دور الرقابة الشعبية على المال العام والثروات انطلاقا من الحرص على صياغة التشريعات وممارسة الرقابة بمسؤولية وشفافية لا زلنا نفتقدها بكل أسف لأسباب عديدة، متفهمين حجم الصعوبات والمعوقات السياسية والتشريعية التي تنتظرنا، والتي علينا أن نمتلك الارادة والصبر لتغييرها نحو الأفضل انطلاقا من وحدتنا الوطنية التي هي أمضى أداة نمتلكها للتغيير نحو الأفضل.
إن إعادة بحث مشروع نظام التقاعد تعني أن المشروع لا زال مطروحاً، وسيعاد بحثه مجدداً، وعلينا ألا نكتفي بتعطيل او وقف المشروع مؤقتا، وأمامنا الوقت للتحضير لجولات اخرى قادمة من العمل الوطني المشترك في هذا الاتجاه، فمشروع اصلاح نظام التقاعد هو مطلب شعبي اساسا، ولكن دعونا نتوافق اولا حول أي اصلاح نريد وأي نظام تقاعدي يمكن ان نرتضي.
فقد دأبنا لعقود على التحذير من وجوه عديدة من التجاوزات والفساد والتلاعب في أموال المشتركين والمتقاعدين لدى هيئة التأمين الاجتماعي، وطالبنا السلطة مراراً بعدم الإنفراد بقرارات غير مدروسة تمس مصالح الفئات الأوسع من المجتمع، والعمل على ادارة التأمينات الاجتماعية بشكل مستقل يكفل إعادة ممثلي العمال لمجلس ادارة الهيئة دون ابطاء، واشراك العمالة الوافدة التي تمثل الجزء الأكبر من حجم العمالة في نظام التأمينات الاجتماعية، وعدم الاكتفاء فقط بمراعاة كبار التجار والشركات بل بالسواد الأعظم من المستفيدين من مظلة التأمينات الاجتماعية، وأن تدار مدخرات واستثمارات المواطنين على أسس مهنية واحترافية بعيدا عن تغول اي من السلطات، وبما يكفل ادارة الهيئة وتنمية اصولها واستثماراتها حفاظا على مظلة الأمان الاجتماعي في البلاد والتي دونها مخاطر لا يمكن القبول بالتلاعب فيها.
تلك، إذاً، احدى مهماتنا الوطنية التي تستحق منا جميعا الاستمرار على استكمالها بنجاح، فلتتحد كل الجهود دفاعا عن مصالح الناس ومستقبلهم.
نشرة التقدمي لشهر يوليو 2018.