اعتادت معظم المدن الفرنسية، ومنذ القرن المنصرم على تنظيم معرض سنوي لبيع جميع الممتلكات المستعملة، ويخص ذلك كل ما يريد الفرد التخلي عنه من أوان، وكتب، وتحف! دعونا لا ننسى الكتب بالذات لأن الشعب الفرنسي شعب قارئ بالدرجة الأولى، إذ لهم في عالم الورق مهارات تواصل خارقة أكثر مما هي في التواصل بين البشر.
شاءت الصدفة أن أحضر أحد هذه المعارض في مدينة أميان الواقعة في الشمال الفرنسي، وأن تقع قدماي على بائع لا يبيع غير الكتب النادرة التي يتعذر الحصول عليها في المكتبات. يصعب عليّ إعطاء تعريف وجيز للكتب القابلة للاندثار في فرنسا، ولكنها تشمل بشكل عام أعمال كل الأدباء والناقدين الأخلاقيين، حيث يرجح هؤلاء أصل الحرف دائماً للخالق ويسعون إلى الدفاع عن القيم الروحية والدينية الضائعة من المجتمع الذي ودّع الكنائس منذ زمن طويل في سبيل الدولة اللادينية.
وأنا في خضم البحث عن ما بإمكانه إثارة فضولي، وقعت يداي على سلسلة مقالات وجيزة لفرانسوا مورياك تحت عنوان “الرواية”. سألت نفسي حينها: لماذا لا نذكر اسم مورياك في الجامعات؟ هل لأنه كاتب أخلاقي نستشعر الله في كلماته؟ هل لأن الدين في فرنسا أصبح فعلاً تابو محرماً الرجوع اليه؟
أخذت أتصفح الكتاب وعيناي تبرقان من شدة الإعجاب، إذ لم أحظ بفرصة قراءة أعماله من قبل. شعرت بروحي عطشى وبنهم للكتاب الذي لم أرَ له مثيلاً في إدراك اضطراب النفس البشرية، وفي دعوته للحب والإيمان. أصدر مورياك هذه التحفة النقدية عام 1928، أي قبل مأساة الحرب العالمية، ووضع في قلب المقالات خلاصة أفكاره عن العمل الروائي، داعياً لما أسماه “التصدي لكتابة الرواية” بالطريقة المتعارف عليها، أي التخلي عن الرواية البلزاكية واكتشاف أفق جديد.
فكَّر مورياك بصورة معمقة في مشاكل الإبداع الروائي داعياً للمقارنة بين ديستويفسكي وبلزاك، أحد أهم أعمدة التاريخ الروائي في العالم، حيث وجد في الكاتب الروسي تجسيداً واقعياً لتعدد أوجه النفس الانسانية التي لا نستطيع اختصارها تحت مسمى واحد على عكس ما فعل بلزاك في معظم رواياته. يرى مورياك على سبيل المثال، أن ديستويفسكي صور في معظم أعماله صراع الانسان مع الله والشيطان والمجتمع، على عكس بلزاك الذي اختصر شخصياته في نطاق محدود لم تستطع الخروج منه والتعبير عن هذا الصراع للعلن.
يحلل مورياك بشكل معلن ظاهرة إخفاء هذا الصراع الإنساني في فرنسا بلوم الرواية الفرنسية التي لزمت وقتاً طويلاً تقتدي ببلزاك حتى أصبحت جميعها بلزاكية، وهذا ما ظهر جلياً لدى المجتمع الفرنسي اليوم، الذي أضحى يتجمَّل بلون واحد لا يغيره، فلك واحد فقط، إذن، هو أن تكون علمانياً وغير معادٍ للسامية أو لا تكون. ليست هنالك مبالغة بهذا الشأن، إذ نشطت قنوات الرئيس ماكرون على وسائل التواصل الاجتماعي لمراقبة كل من يخرج عن المتآلف عليه فيما يكتبه، أو يستعرض آداب الراحلين أمثال مورياك.
يثني مورياك بشكل كبير على دور ديستويفسكي في إعلاء الشعب الروسي، وايقاظ مبادئ الصدق والحب والنقاء ورابطة الأسرة، ليتمنى في نهاية مقالاته أن يتمكن الشعب الفرنسي من عقد معاهدة سلام مع الله ومناجاته، ليس من منطلق ديني لكن من منظور حياتي وكوني. لا يدعو مورياك مجمع الفرنسيين إلى الإيمان بوجود الله ولكن للتعايش مع المؤمنين منهم، وتقدير أهمية المبادئ الإلهية في إدارة المجتمع.
يجدر بالذكر أن مورياك حاز على جائزة نوبل للسلام عام ١٩٥٢ قبل أن يتفرغ للنقد، ووسام شكر من الجنرال شارل ديغول على دعوته للسلام، تاركاً في حوزة قرائه ما يقارب الثلاثين مؤلف في عالم الرواية والمسرح.
نشرة التقدمي – يونيو – العدد 127