المنشور

الارهاب وانفجار الهويات

يرى أمين معلوف أن
الهوية هي من أكثر الكلمات المُضلِلة، فهي الأكثر شفافية والأكثر خيانة، وبتقديره أن
خيانة الهوية تنشأ حين يستعيض الإنسان في أوقات كثيرة عن الهوية بعنصر واحد من عناصرها،
ويعتبر أن هذا العنصر، سواء كان دينياً أو قومياً، يختصر أو يختزل كل الهوية، بينما
الهوية مركبة من عدة عناصر.

ما لم يقله معلوف
هنا ولكنه قاله بتفصيل كبير في كتابه عن «الهويات القاتلة» أن العالم العربي في لحظته
الراهنة يشهد هذا الاختزال المعيب، والمُدمر، لا بل والقاتل، إن نحن استعرنا التعبير
من عنوان كتابه. صحيح أن معلوف وضع كتابه من وحي تجربته الشخصية بصفته لبنانياً من
واقع صراع وتجاذب الهويات في بلده لبنان، وهو واقع أدخل البلد منذ نحو ثلاثة عقود في
حرب أهلية طاحنة ما زالت ارتدادتها مستمرة حتى اللحظة، متفاوتة في القوة والنطاق.

 ولم تكن البلدان العربية قد شهدت، بعد، تمزقات موجعة
في نسيجها الوطني على نحو ما نرى اليوم في العراق وسوريا واليمن وغيرها، لكن ما شخَّصه
معلوف في كتابه يظل صالحا للقياس عليه من واقع ان الهوية حين تصبح خائنة ليس بوسعها
إلا أن تكون مدمرة. وجه الخيانة هنا منحصر في اختزال الهوية المُكَّونة، أو التي يجب
أن تتكوَّن من عدة عناصر، في عنصر واحد يتيم، يُغيب عناصرها، أو فلنقل أوجهها الأخرى،
خاصة ما هو أكثر أهمية منها، حين يكون هو القاسم المشترك بين أفراد شعب متنوع الانتماءات،
ولكن تُوحده الهوية الوطنية الجامعة.

يقترح معلوف في هذا
السياق التمييز بين الهوية والانتماء بالجمع، أي الانتماءات، فمقولة الانتماءات من
وجهة نظره أدق، لأن للفرد، كما للجماعة، إنتماءات عديدة، ولكنها ليست كلها على ذات
الأهمية، بل ان أهمية إنتماء معين قد تتغلب على سواها تبعا للمرحلة التاريخية التي
تجتازها الأمة. وهو يعطي مثلا على ذلك بالحال في بلد مثل العراق، تختلف فيه مشاعر الناس
في مرحلة معينة عنها في مرحلة اخرى، ثمة انتماء أخذ أهمية أكبر من سواه في مرحلة الحرب
العراقية – الإيرانية ربما لم يعد قائما الآن.

 ليس المطلوب شطب أي انتماء من انتماءات الفرد أو
الشعب، بل لعل المطلوب الاعتراف بها، ولكن الخطر ينشأ حين يختزل الأمر في عنصر واحد،
مما يقود إلى الخراب. ولعل أبرز ملمح للتطورات السياسية الجارية في عددٍ من البلدان
العربية هو إنفجار الهويات الفرعية، وتشظي الدولة الوطنية العربية إلى مجموعات عرقية
ومذهبية وطائفية، بعد أن كان مشروع هذه الدولة بعد الإستقلال هو بناء هذه الدولة الوطنية
التي تدمج في نسيجها الواحد مجموعة هويات تتنازل عن بعض صور تضامنها لتغليب الانتماء
الوطني العام الذي يوحد الكل في بوتقة أو نسيج الوطن الواحد.

بعض ما يجري حالياً
تعود مسؤوليته بدرجة أساسية إلى الدولة القطرية العربية ذاتها التي لم تسعَ لإقامة
التوازن بين الهويات الفرعية داخلها في إتجاه التداخل ما بينها على قاعدة المساواة
في الحقوق والواجبات، وبلورة هوية وطنية واحدة تكون بمثابة المظلة التي ينضوي تحتها
الجميع، على العكس من ذلك فإن هذه الدولة كثيراً ما سعت إلى تغليب منظومات من التضامن
الفرعي، كبديل للتضامن الكلي أو الجمعي، مُؤَسسة على الولاءات، كما جرى في العراق مثلاً،
والذي يعد اليوم أحد أكثر البلدان العربية عرضة لمخاطر التشظي الذي أشرنا إليه، فما
أن انهارت السلطة تحت ضغط الإحتلال الخارجي وإستنفاذ شرعيتها الداخلية بعد أن تآكلت
بالتدريج، حتى وجدنا المجتمع يعود إلى صور التضامن الأولية السابقة لقيام الدولة، ولم
يعد الحديث يدور عن إعادة بناء الوطن الذي يتساوى أبناؤه في كل شيء، وإنما عن توزيع
حصص التمثيل الطائفي والسياسي، وتأمين طموحات كل فئة وطائفة على حدة، حتى لو تعارضت
مع الطموحات الوطنية العامة أو المشتركة.

وهذه مسألة على قدر
كبير من الخطورة والتعقيد، فالعديد من البلدان العربية تتسم بتعددية في تركيبها الإثني
والمذهبي والطائفي، ودلت التجربة المريرة للحرب الأهلية الطويلة في لبنان، والتي سبقتها
بالمناسبة حروب أهلية أخرى على مدى التاريخ الحديث والمعاصر للبنان، إن هذه التعددية
ما لم تعالج في اتجاه إثراء الهوية الوطنية المشتركة وبنائها بهدف إقامة النسيج الوطني
الواحد يمكن أن تنقلب إلى مصادر للبغضاء والفرقة والتوتر، وحتى للحرب في أكثر صورها
دموية على نحو ما جرى في لبنان، خاصة إذا ما تضافرت مع الأمر عوامل وتدخلات ومصالح
خارجية لا تريد بالبلد المعني وأهله الخير، وهذا ما يخشى على العراق وسوريا في الوقت
الحالي.

إن وضعاً جديداً
تشكل في العالم ويتشكل في منطقتنا العربية أيضاً، ويمكن أن نتفهم بعض بواعث إنبعاث
الهويات الفرعية، خاصة في نطاقها الثقافي وفي نطاق المطالبات السياسية المشروعة، لكن
هذه البواعث ما لم تعالج بحكمة وتبصر وروية وبعد نظر يمكن أن تقود إلى مهالك للأوطان
مجتمعة ولأهل هذه الهويات أنفسهم، خاصة إذا جرى الركون في هذا السياق على وعود أو تلميحات
من الخارج بتبني أو دعم بعض المطالبات.

وهذا القول لا يعفي
الدولة الوطنية ذاتها من مسؤوليتها الكبرى في إزالة أو إحتواء بواعث التذمر أو الشعور
بالضيم أو الغبن من قبل ممثلي وأبناء هذه الهويات، بوصف ذلك شرطاً جوهرياً من شروط
بناء الدولة الديمقراطية المستجيبة لروح الحداثة والمنفتحة على آفاقها. يزداد ذلك إلحاحاً
مع انتشار رقعة الإرهاب واستشراء نفوذ الأصولية المتشددة، وهي ظاهرة خطرة مركبة، ويحتاج
فهمها إلى عقل تركيبي، ذلك أن ورائها تقف أسباب سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية وفلسفية،
وبالتالي فإن الذي يتناولها يجب أن يحيط بكل هذه الجوانب.

تقول الولايات المتحدة
الأمريكية وفريق الدول الغربية أنها تخوض معركة ضد الإرهاب الدولي، وتدل الوقائع على
أنها قادرة على تجييش الجيوش وتحشيد الرأي العام تحت هذه اليافطة. تدل الوقائع أيضاً
أن الرأي العام الأمريكي والغربي مقتنع بوجاهة وجدية ما تبثه أجهزة الإعلام حول هذه
المسألة، وعلينا القول أن بواعث خوف الناس من الإرهاب بواعث مشروعة وحقيقية وصادقة،
فلا أحد يطيق مشاهدة الدمار والخراب والقتل وأشلاء الجثث الممزقة، فضلاً عن أن الإرهاب
إنْ هو استمر يصبح خطراً ماثلاً يمكن أن يطال الدول والأفراد دونما استثناء ودونما
تفريق.

 لكن هل الذين يدعون محاربة الإرهاب أبرياء من المساهمة
في صنعه؟! المفارقة تكمن في أن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، وأجهزتها
الاستخباراتية بشكل أخص اضطلعت بدور مشهود في إنشاء وتقوية وشد أزر العديد من الجماعات
والدول التي سرعان ما ارتدت بسلاحها إلى صدور من دعموها وغذوها بالأموال والأسلحة والخبرات
والتسهيلات في وقت كانوا فيه بحاجة إلى هذه الجماعات والقوى والدول في صراعهم على النفوذ
الدولي.

ولم يتنبه هؤلاء
أو يولوا العناية الكافية لحقيقة أن هذه الجماعات تُصبح مع الوقت كائنات مستقلة تحكمها
آلية عمل ذاتية وتعمل وفق رؤية تنسجم وتطلعاتها ومصالحها وتُبدل تحالفاتها، لأن الكثير
من الظواهر تنشأ تحت تأثير عامل مباشر آني، ولكنها بزوال هذا العامل تتحول في الدور
والرؤية والهدف بما ينسجم والتبدلات المحيطة، خاصة وأن القوى الموصومة اليوم بالإرهاب
والتي دعمها الغرب سابقاً هي تكوينات محافظة وغير حداثية، وتعبر عن قاعدة اجتماعية
واسعة من المهمشين والمخلوعين الذين قاد «التحديث» العشوائي أوضاعهم إلى الخراب.

 يقول جان بوديار أن الأوروبيين اعتقدوا بسذاجة إن
تطور الخير وانتشاره في كل المجالات: العلوم، التكنولوجيا، الديمقراطية، حقوق الإنسان..
الخ يمكن أن يقود إلى هزيمة الشر، لكنه ينبه إلى أن أحداً لم يلاحظ بعد أن الشر والخير
يتقدمان ويتطوران معاً، وفي الوقت نفسه وبالحركة نفسه، وإن انتصار أحدٍ منهما لا يؤدي
بالضرورة إلى هزيمة الآخر، بل إلى عكس ذلك تماماً، أي إلى تقويته. لذا فإنه لا يظن
أن الحرب بهذه الكمية الهائلة من الأسلحة المدمرة وبالخطب المزيفة والمضحكة قادرة على
أن تقضي على الإرهاب وجذوره









.




وما لم يقله بوديار صراحة أن دولاً وأجهزة
استخبارات وقوى مجتمعية ليس من مصلحتها أن ينهزم الإرهاب أو يقضى عليه. فهي تريده
أداة من أدوات تمكين مصالحها وإدارة صراعاتها مع خصومها.