ذكرنا في مقال الأسبوع الماضي «إحلال ثقافة المصالحة محل تقاليد الخصومة والثأر»، في معرض مناقشتنا لمبادرة مساعد وزير الداخلية مدير الأمن بمحافظة سوهاج المصرية اللواء أحمد أبوالفتوح، لعقد أول مؤتمر شعبي في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج في شهر يناير/كانون ثاني 2016 يهدف لإشاعة ثقافة المصالحات ونبذ الخصومات وأعمال الثأر، وجعل محافظة سوهاج، وهي إحدى محافظات صعيد مصر الجنوبي (أسيوط، قنا، سوهاج، الأقصر، أسوان، النوبة)، خالية من الثأر والدم خلال عام 2016 ذكرنا أنه رغم أهمية تلك المبادرة، التي ربطنا شرط نجاحها بوضع خطة عمل تنفيذية واجرائية، وإسناد تنفيذها الى فريق عمل متخصص، فإن الأهم من كل ذلك والذي يجب أن يواكب العمل الإجرائي، هو القيام بعمل تربوي يرد بقوة على تحدي ثقافة الثأر ويستثمر ويعيد بعث الجوانب المشرقة التي أنتجتها محافظات الصعيد المصري، مثل المعلم البارز رفاعة رافع الطهطاوي (1801 1873) أحد رواد عصر النهضة العلمية والتعليمية والثقافية والإعلامية ومحو الأمية في مصر في عهد محمد علي باشا، ورجل الأعمال المعروف المهندس نجيب أنسي ساويرس وغيرهما، على سبيل المثال لا الحصر، في حالة مدينة طهطا التي اتُخذت نموذجاً لإطلاق المبادرة سالفة الذكر.
لاشك أن إعادة الوعي المسلوب من قبل الإيديولوجيات والعصبيات القروسطية، إلى قطاعات السكان في الصعيد من خلال عمل تربوي واسع ومنظم ينطلق من المنازل وأماكن العبادة والمدارس والجامعات، هي على قدر عال من الأهمية من أجل توفير شروط هزيمة ثقافة الثأر المؤسسة على تلك العصبيات. ولكن هذا التنبه، المتأخر على أية حال، لخطر تفاقم الانقسامات بين سكان مدن وبلدات وقرى محافظات الصعيد المصري، يطرح العديد من الأسئلة حول بقاء هذا الواقع مستمراً دون أن تطاله تحولات مؤسسات الدولة في عصريها الملكي والجمهوري. فكيف قُيِّض لثقافة تأبط البندقية والذهاب لأعمال الثأر ما إن تنطلق شرارتها الأولى، التغلب على ثقافة الدولة العصرية ومؤسساتها التنموية الحاكمة؟
الإجابة واضحة وضوح الشمس لذوي الألباب، وهي لا تحتاج إلى كثير من الجهد العقلي لإجلائها وفهمها. فإن الذي لاشك فيه أن رؤساء وأعضاء المجالس البلدية والمجالس القروية ورؤساء وأعضاء مجالس المحافظات السابقين، لم يكونوا يقومون بعملهم المنوط بهم بموجب مدونات التكليف ( Mandate) الخاصة بكل وظيفة سيادية من هذه الوظائف التي تقلدوها، على أكمل وجه. فلقد كانت هذه المناطق الطرفية بحاجة منذ عقود إلى البنى التحتية الأساسية ومن بعد إلى العمران والمرافق الحديثة التي تقربها من المستويات الحضرية للبلدات والمدن، تحقيقاً لهدف التمدين الريفي الذي يغل طمع أيدي الترييف من الامتداد للمدن لترييفها عكسياً و«إيصال» العشوائيات لضواحي المدن وتهديد مراكزها الحضرية. وما حدث في مدينة القصرين التونسية مؤخراً خير دليل على ما نزعم. فلقد أُهملت تنموياً وتُرك شبابها بلا أعمال ولا آمال، ليصبحوا نهباً، أولا لانفجار فقاعة السخط الطبيعي المحق والمفهوم والمعبر عنه بأشكال شتى، ولكل صاحب أجندة خاصة، من الخلاص الفردي عبر الانتماء إلى عصابات الإجرام والمخدرات، إلى التنظيمات الإرهابية. ولعل من المناسب ها هنا تذكُّر ما قام به الخديوي إسماعيل (31 ديسمبر 1830 2 مارس 1895)، خامس حكام مصر من سلالة محمد علي باشا الذي تولّى عرش مصر في 18 يناير 1863. فقد عمل في فترة حكمه على تطوير مصر اقتصادياً وعمرانياً وإدارياً على نحو لافت ومبهر، حتى استحق لقب المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد إنجازات جده محمد علي باشا الكبير. وتُنسب له مبادرة إنشاء مجالس محلية منتخبة للمعاونة في إدارة الدولة أُعطيت حق النظر في الدعاوي الجنائية والمدنية. كما عمل على زيادة مساحة الأراضي الزراعية في المناطق الطرفية، بما شمل حفر ترعة الإبراهيمية في صعيد مصر، وترعة الإسماعيلية في شرق الدلتا، وأطلق خدمة البرق والبريد وطور شبكة السكك الحديدية لربط المراكز بالأطراف، كما تمت في عهده إضاءة الشوارع ومُدت شبكة أنابيب المياه.
نتذكر تلك التحولات المؤثرة في البيئات المحلية، ونضعها قبالة ما كان أورده تقرير المؤسسة الدولية للتنمية في سبتمبر من عام 2008 بهذا الشأن، ومفاده، «أن محافظة سوهاج بصعيد مصر، وهي إحدى أفقر مناطق البلاد، قدمت بعضاً من أسوأ مؤشرات التنمية البشرية في مصر. فمنذ عقد، كان 77% من سكانها البالغ عددهم 3.2 مليون نسمة يعيشون في مناطق ريفية، ومعدل نمو سكانها 2.8% على الرغم من ارتفاع مستويات الهجرة إلى خارج المحافظة. وشهدت المحافظة واحداً من أعلى معدلات الكثافة السكانية العالمية، إذ يبلغ نحو 1900 شخص لكل كيلو متر مربع واحد. وبلغت نسبة الأمية في سوهاج نحو 70 في المئة من السكان البالغين، وحوالي 84% من النساء، وافتقد 90%من القرى في المناطق الريفية إلى خدمات الصرف الصحي، واتسم تقديم الخدمات والبنية التحتية في المناطق الريفية بقدر كبير من المركزية في صنع القرار والإجراءات البيروقراطية المطوّلة».
في محصلة القول، إذا لم تتمكن السلطات المحلية من إحداث الفارق في مؤشرات نوعية الحياة لسكان الأطراف، ومنهم سكان صعيد مصر وغيرهم من سكان المناطق الريفية والصحراوية النائية مثل سيناء، فإن الحديث عن معالجة بعض أوجه تمظهرات تخلفها وعزلتها الحضارية، من قبيل محاولة إنهاء ظاهرة الثأر والانتقام الشائعة والراسخة في نمط حياة مجتمع الصعيد، يصبح ضرباً من الأمنيات التي تهفو النفس للقبض عليها.
حرر في: 12/02/2016