في اللهجة الخليجية، ولا أعلم إذا كان الأمر كذلك في لهجات عربية أخرى، فإن معنى كلمة غربال ينصرف نحو الأذى أو الابتلاء، فحين تقول عن أحدهم: غربلني، تقصد أنه جلب لك الأذى أو المتاعب. وحين تدعو على أحدهم بالقول: الله يغربله، فكأنك تقول: الله يحاسبه، أو أن يقع عليه أذى كذاك الذي أوقعه عليك. وفي بعض الحالات يمكن أن تقال هذه العبارة على غير محمل الدعاء بالعقاب، وإنما للتدلل أو المزاح، قريباً من التعبير الدارج في اللهجة المصرية: منك لله.
أما في القاموس فإن مفردة غربال، وجمعها غَرَابِيل تطلق على «أَدَاة دائِرِيَة يُغَرْبَلُ بِهَا الطَحِينُ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، تُشْبِهُ الدفَ، يَشُدُ مُحيطَها جِلْدٌ أَوْ مَعْدِنٌ بِهِ ثُقُوبٌ صَغِيرَةٌ تُنَقِي الْمَادَةَ الْمُغَرْبَلَةَ، وغربال هي أيضاً ما يفرِق به الرمل عن الحصى».
هناك بالطبع معانٍ أخرى للمفردة لا مجال لتعدادها كلها هنا، ولكننا على سبيل المجاز نقول: «غطَى الشَمسَ بالغربال»، في إشارة لمن يتجاهل الحقائق الواضحة التي لا يمكن إخفاؤها، ونقول عن الرجل سريع النسيان إن ذاكرته كالغربال.
لكننا هنا بصدد الوقوف على معنى آخر للغربال، هو ذاك الذي عناه ميخائيل نعيمة حين جعل من المفردة عنواناً لأحد كتبه المهمة، وضمنه مقالة مهمة بعنوان: «الغربلة»، وفي مطلعها يستشهد بالمثل العربي القائل: «من غربل الناس نخلوه». والغربلة التي يعنيها نعيمة هي قرينة ما نطلق عليه: النقد، أي نقد الأعمال الأدبية والفنية، وفيها أيضاً يشفق نعيمة على النقاد، أو الناقدين بتعبيره، قائلاً: «ويل للناقدين»، لأنهم إذ يغربلون الأعمال المكتوبة، لا ينجون هم أنفسهم من نقد المنقودين فيرون أنفسهم نخالة مرتعشة في ألوف من المناخل.
لكنه لا يقول ذلك داعياً لعدم النقد، أو الغربلة كما يطلق عليها، وإنما محرضاً عليها، فهي مهمة الناقد، لكنها ليست غربلة الناس بل غربلة ما يُدَونه قسم من الناس من أفكار وميول ومشاعر، أي ما تعودنا أن ندعوه أدباً، ومهمة الناقد هي غربلة الآثار الأدبية لا أصحابها، وإذا كان بين الكتاب والشعراء من لا يفصل بين كتابته المتاحة للجميع وفرديته التي لا تتعداه، فذاك الكاتب أو الشاعر لم ينضج بعد وليس أهلاً لأن يسمى كاتباً أو شاعراً.
غاية ميخائيل نعيمة هي التحريض على الغربلة، التي بدونها لن يستقيم أمر، وستصبح الساحات مستباحة من الزيف والادعاء على ما نراه اليوم.
حرر في: 15/02/2016