استمعت مؤخراً إلى مقطع فيديو يحاضر فيه أحد الأساتذة المثقفين الخليجيين عن حاجة مجتمعاتنا إلى الديمقراطية. وقد اختار أن يرد بقوة وثقة بالغتين، إنما مشبوبتان بعاطفة شاخصة في نبرة حماسة الانحياز المطلق غير المتحفظ لاستحقاق شعوب منطقتنا للديمقراطية، ومتشجعة بحرارة تصفيق جمهور الحاضرين النخبوي..وذلك في معرض تخصيصه شطراً من محاضرته للرد على الأصوات المشككة في إمكانية وفرص نجاح الديمقراطية كأداة إدارة كلية مجتمعية في عالمنا العربي، بسبب تخلف شعوبنا وعدم حسن تعاملها مع زمام مسؤولية استخدام هذه الأداة العظيمة، ولكن الخطيرة في نفس الوقت. واستشهد بشعبي الهند وبنغلاديش، متسائلاً: هل هما أكثر تطوراً منا؟
ينزع الكثيرون في عالمنا العربي، ومن ضمنهم محاضرنا الكريم المنوه عنه، وهم يناظرون ويناقشون الأزمة العامة في العالم العربي، ومن ضمنها أزمة الحريات، إلى تبسيط عملية اقتراح مقاربات الحلول «الناجعة» لهذه الأزمة، وعلى رأسها مقاربة الديمقراطية التي يقاربونها بمنزلة الحل السحري لكل عناصر الأزمة الضاربة عميقاً داخل البنى والهياكل المادية (المؤسسية)، والروحية لبلداننا، دول سيادية ومجتمعات ذات «خصوصية مضافة» لخصوصيات مجتمعات بلدان الشرق الاستبدادي.
الآن، وما دام الشيء بالشيء يذكر – فيما خص المقارنات المعقودة، خفة، بيننا وبين بيئات أخرى مختلفة تماماً.. إما لجهة مستوى التطور الحضاري الشامل أو لجهة المزاج العام للشخصية المجتمعية والفردية المتشكلة عبر مئات السنين من التقاليد والترويض والأنسنة – لعل من المفيد هنا أن نتذكر أن شعوب شبه القارة الهندية حين قررت أن تبني على ذلك الرصيد من حصاد سنين تشكل شخصيتها الجمعية، التي هي بالضرورة حاصل جمع الشخصية الفردية لجموعها، في اختيار مقاربتها الخاصة بالإدارة الكلية المجتمعية، المناسبة والآمنة لشق طريقها التنموي، فإنها اتفقت منذ البدء على اعتماد المواطنة معياراً أساسياً لنسج عقدها الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وعدم السماح لأي مكون أو جماعة أو طائفة إدراج هويتها الفرعية، الدينية أو المذهبية، ضمن حسابات نموذج المواطنة المصاغ لحفظ الهوية الوطنية الجامعة.
لهذا السبب تمكنت تلك الشعوب في آسيا الجنوبية من إصابة النجاح المأمول من مقاربتها للديمقراطية التي اعتمدتها كأداة تسيير مجتمعي على مدار السنين الماضية، منذ أن تحررت من مستعمرها البريطاني.
بيد أن ما أبدته من ضعف في العقود القليلة الماضية أمام تجاسرات العصبيات الدينية والطائفية التي بعثتها قلة حيلة مجتمعاتها أمام تحولات الحياة العظيمة، قد وضعها على نفس سكة مأزق الإدارة الكلية المجتمعية لبقية المنظومة العالم ثالثية.
في باكستان لجأت الأحزاب الباكستانية ومؤسسات الحكم العسكرية والأمنية، وحتى المدنية، خلال العقود الأربعة الأخيرة لاستحضار العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية في الحياة السياسية الباكستانية. وفي السنوات القليلة الماضية حذت بنغلاديش حذو جارتها باكستان التي اختارت الانفصال عنها بالحرب في ديسمبر/كانون الأول من عام 1971، حيث أصبح طغيان وتنمر المنظمات والتشكيلات ذات التوجهات الدينية المتطرفة، العنوان البارز في الحياة السياسية البنغلاديشية. فكان أن ذهب ضحية هذا الطغيان، اغتيالاً وتصفيةً جسدية، عديد الأعلام الفكرية والثقافية والسياسية، بل وبعض الخبراء الأجانب الذين يعملون في بنغلاديش. وحتى الهند التي لطالما عُرفت بعراقة ديمقراطيتها وصيتها الذائع في التسامح الديني، تخضع الآن لعملية ضخ دينية إقصائية من جانب أوساط نافذة وواسعة داخل حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة نارندرا مودي الذي أعادته صناديق الاقتراع إلى السلطة في شهر مايو/أيار من عام 2014.
هذا الحزب عاد إلى السلطة بوعود اقتصادية إصلاحية براقة وبرافعة الطائفية الهندوسية التي شدت زعامة الحزب عصابها ونفخت في كيرها داخل الديار وفي بلدان الشتات التي تستضيف أكبر الجاليات الهندية. ومع وصول الحزب للسلطة عاودت عملية الاصطفاف العصبي الهندوسي دورانها في الاتجاه المضاد لمحور محتوى الديمقراطية الأول: المواطنة. والآن، ومع استحضار الشد العصبي الديني فمن الممكن أن يفضي وضع الديمقراطية الهندية العريقة في أيد مسكونة بالخوف، المؤسس دينياً، من الآخر، إلى تحولها لقنبلة موقوتة. ولعل من المناسب أن أسوق لكم أحد الشواهد المقلقة التي أطلت برأسها في الجو الذي يجري شحنه ب«صهيل» العصبيات الخارقة للعقد الاجتماعي. الممثل الهندي المسلم عامر خان المتزوج من هندوسية والمعروف في الوسط الهندي بمصداقيته وبمناقبياته العالية، فجّر مؤخراً جدلاً صاخباً في أوساط النخب الهندية من ساسة ومثقفين وفنانين وممثلين بعد أن قال إنه ربما يفكر في الهجرة من الهند إثر تراجع التسامح الديني والصعود الخطير للمتشددين وتصدرهم للمشهد السياسي وأجنداته الاجتماعية والثقافية منذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا المعبر عن الأوساط الهندوسية المحافظة والمتطرفة، إلى السلطة.
في مقال نشره موقع «بروجيكت سنديكيت» بتاريخ 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، كتب وزير الدولة السابق لتطوير الموارد البشرية ووزير الدولة للشؤون الخارجية السابق والنائب الحالي في البرلمان الهندي عن حزب المؤتمر «شاشي ثارور»، بعد أن استعرض عدداً من حوادث قتل المسلمين والهندوس الذين أشيع عن تناولهم لحوم الأبقار، بأن هذه الموجة من أعمال القتل بدوافع دينية تكشف عن مشكلة خطيرة في المسار الذي تسلكه البلاد في عهد مودي. علماً بأن دستور البلاد يتضمن نصاً يحث صراحة على الانتقال التدريجي نحو الحظر الكامل لذبح الأبقار، وهو الحظر الذي تم تنفيذه بالفعل في أغلب الولايات. إنما مع جدارة التنويه بأنه على مدى أغلب تاريخ الهند كان النهج الأساسي – والكلام لكاتب المقال – يتلخص في مبدأ «عش ودع غيرك يعيشون». ويكمل قائلاً بأن «حكومة مودي أعطت صوتاً لنوع غريب من الشوفينية الهندوسية، تلك التي تعتنق التأكيد النشط على نسخة ضيقة الأفق من العقيدة الإيمانية، مع أن الهندوسية ليست أصولية، فهي ديانة تخلو بشكل متفرد من الأصول الأساسية: فهي تفتقر لوجود كتاب مقدس منفرد، أو نسخة منفردة من الألوهية.
يوم الأحد 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أرسل الناخبون، في الهند رسالة لمودي مضمونها، «ضع حداً للترويج للكراهية». حيث خسر مودي وحزبه، بهاراتيا جاناتا، في الانتخابات التشريعية في ولاية بيهار الشمالية، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 100 مليون نسمة، التي فاز فيها «التحالف الكبير» الذي ضم الأحزاب العلمانية المؤتلفة ضد سياسات حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي، ب 178 دائرة انتخابية في المجلس التشريعي الذي يضم 243 عضواً، مقابل 53 دائرة فاز بها حزب بهاراتيا جاناتا. وفي ذروة ردة فعل موازية، أعاد ما يقرب من 40 من أبرز الكتاب والشعراء الجوائز التكريمية التي منحتها إياهم الأكاديمية الأدبية احتجاجاً على صمت الأكاديمية وغيرها من الهيئات الحكومية في أعقاب قتل ثلاثة من المثقفين على أيدي المتشددين الهندوس.
حرر في: 29/01/2016