” لقد ولت تلك الأيام التي كانت فيها أجندتنا في هذا الجزء من نصف الكرة الأرضية التي تفترض أن بمقدور الولايات المتحدة التدخل في بلدانه والإفلات من العقاب، دونما أي محاسبة أو عقاب”. كانت هذه هي الكلمات التي نطقها الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام تجمع قيادات منتدى منظمات المجتمع المدني في أمريكا اللاتينية، على هامش مشاركته في قمة منظمة الدول الأمريكية التي عقدت في بنما في شهر إبريل من العام الفائت. فهل كانت هذه التطمينات مجرد أقوال مرسلة أوجبتها مقتضيات ممارسة وظيفة دبلوماسية العلاقات العامة في تلك اللحظة، أم أنها تعبر فعلاً عن تخلي واشنطن جدياً عن سياساتها «الاقتحامية» في الشؤون الداخلية لبلدان أمريكا اللاتينية، بوحي من مبدأ الرئيس الأمريكي الراحل جيمس مونرو لعام 1823؟.. بهذا التساؤل توقفنا في مقال الأسبوع الماضي «أمريكا والعالم..أمريكا اللاتينية نموذجاً».
قبل الرئيس أوباما كان الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتحدة الأمريكية وودرو ويلسون (4 مارس/آذار 1913 4 مارس 1921)، قد وعد بأن الولايات المتحدة لن تستولي بالقوة مرة ثانية على موطئ قدم إضافي في أمريكا اللاتينية، كما اختار ممارسة ضبط النفس وعدم التدخل ضد الثورة المكسيكية (1910 1934) التي اندلعت أثناء فترة رئاسته. وقد كانت واشنطن مستعدة لاستخدام تفسير روزفلت لمبدأ مونرو بتبرير الاحتلال الكامل للمكسيك، إلا أنها اختارت اتباع «سياسة الانتظار الحَذِر». مع أن السفير الأمريكي في المكسيك كان جزءاً من خطة الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش المكسيكي فيكتوريانو ويرتا مطلع عام 1913 للإطاحة بزعيم الثورة المكسيكية فرانسيسكو ماديرو. كذلك فإن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت الذي امتدت ولايته من عام 1933 الى 1945، استهل ولايته بالتعبير عن اتباعه سياسة حسن الجوار مع بلدان القارة، وقام باستكمال سحب قوات بلاده تدريجياً من الدول الأمريكية الصغيرة التي احتلتها، بالتوازي مع تنازل بلاده عن امتيازاتها الخاصة التي انتزعتها لنفسها. ولكن سرعان ما عادت واشنطن فيما بعد بعزيمة أقوى لممارسة جبروتها ونفوذها على بلدان القارة.
فهل تصدق هذه المرة وعود الرئيس أوباما للأمريكيين الجنوبيين، بعدم التدخل في شؤون بلدانهم؟..لنضع هذه النوايا على محك الواقع الراهن ونفحص مدى جديتها من عدمها. في الواقع لقد عمدت الولايات المتحدة في مطلع تسعينات القرن الماضي، على خلفية انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار موجة الحرب الباردة، الى إرخاء قبضتها الفولاذية التي ظلت تمسك بها تلابيب الحياة السياسية في بلدان قارة أمريكا الجنوبية ذات المساحة البالغة حوالي 17.9 مليون كيلومتر مربع وعدد السكان البالغ حوالي 371 مليون نسمة (2005) والتي نال معظم بلدانها استقلاله عن إسبانيا بحروب التحرير في حوالي عام 1823. فكان أن اجتاحت بلدان القارة موجة عاصفة من التحولات الديمقراطية العميقة التي وضعت حداً للدكتاتوريات السوداء المسنودة بالجار الأمريكي. هذه التطورات الدراماتيكية لم ترق لواشنطن التي عادت، بغض النظر عن إداراتها المتعاقبة، لمناوئة الحكومات الجديدة التي اتخذت منحنى سياسياً مستقلاً، مغايراً تماماً لتوجهات الأنظمة الدكتاتورية السابقة الموالية لها. فناصبت العداء لفنزويلا منذ أن فاز في انتخاباتها الرئيس الراحل هوغو تشافيز في عام 1999 والذي اشتُهر بانتقاداته الحادة للسياسة الخارجية الأمريكية وبمناداته بتكامل بلدان أمريكا اللاتينية سياسياً واقتصادياً. ولم تعدم وسيلة للإطاحة به، سواء عبر المحاولات الانقلابية أو تقديم كافة أشكال الدعم للمعارضة اليمينية لترجيح كفتها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا واستخدمتها، الى أن نجحت أخيراً في تمكين المعارضة اليمينية من الفوز بأغلبية الثلثين في الانتخابات البرلمانية التي جرت في السادس عشر من ديسمبر/كانون أول الماضي، مستفيدة من تردي الوضع الاقتصادي وأحوال الناس جراء انهيار أسعار النفط والإنفاق الحكومي الضخم الذي لم يعد ممكناً بسبب تآكل إيرادات البلاد النفطية.
الأمر نفسه ينطبق على الأرجنتين، فما أن وصل، انتخابياً، إلى رئاستها نيستور كيرشنير في عام 2003 الذي نجح في إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد الأرجنتيني بعد انهياره إثر الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي عصفت بالبلاد عام 2001، وخلافة زوجته كرستينا فيرنانديز كيرشنير من بعده، إثر فوزها بنسبة ساحقة بلغت 44.6% في انتخابات 2007، وفوزها ثانيةً بأكثر من 54% في انتخابات 2011، حتى أضحت البلاد هدفاً ثابتاً للضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية والنفسية، والتدخلات السافرة في شؤونها الداخلية من خلال الدعم المكشوف لخصوم النظام الذي استن سياسة استقلالية أغضبت واشنطن وحلفائها الأوروبيين، الذين ما انفكوا يشنون الحملات الإعلامية المشككة في اقتصاد البلاد واتهام النظام ومؤسساته بالفساد، إلى أن قيض لمرشح المعارضة اليمينية ماوريسيو ماكري الفوز في الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة التي جرت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على مرشح البيرونيين اليساري دانيال سيولي.
والهدف القادم هو البرازيل، فهي الأخرى تحت المجهر الإعلامي الغربي، لا تكاد تفارق تغطياته لأحداثها من زاوية التأشير على فساد حكم اليسار فيها وفساد إدارته للبلاد. حتى وصل الأمر إلى قيام وكالة الأمن القومي (NSA) بالتجسس على البريد الإلكتروني للرئيسة البرازيلية دلما روسيف، حسبما كُشف عنه النقاب في يونيو/حزيران 2012، وإن البرازيل كانت، بحسب تسريبات إدوارد سنودين، الهدف الأكبر لتجسس الوكالة. مجلة «الإيكونومست»، على سبيل المثال، التي تقسم تغطياتها لأحداث العالم، إقليمياً، أفردت في عددها الأسبوعي 12 18 ديسمبر/كانون الأول 2015 بكامله لفنزويلا والأرجنتين والبرازيل. وجميعها تغطيات ذات نبرات تسقيطية وتحريضية. وسيأتي الدور تباعاً على «البؤر الصغيرة» المتبقية مثل بوليفيا والإكوادور وغيرهما، من أجل إعادة صبغ الخريطة اللاتينية بألوان اليمين «المطيع» والنجيب، الذي سوف ينسب له الفضل فوراً في عودة الرساميل الأجنبية، بعد صدور الإشارة لوقف حملات تطفيش المستثمرين من أسواقها، وتمكينها من النفاذ السلس إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية.
كما هو واضح إذاً، فإن هذه الضغوط الأمريكية وتورط مؤسسات الأنظمة اليسارية القائمة في الفساد، سوف يؤذنان بعودة اليمين مرة أخرى إلى السلطة فيما تبقى من أنظمة يسارية حاكمة في أمريكا اللاتينية.
حرر في: 22/01/2016