لم تكد تمضي بضعة أسابيع على انتقاد مجلة الإيكونومست البريطانية، ما أسمته بالتدليس الذي تمارسه مؤسسات الاتحاد الأوروبي في طريقة احتساب كمية خفض انبعاثات السيارات الأوروبية من ثاني أكسيد الكربون، والتي اعتبرتها مخادعة ومبالغاً فيها، وإنها محاولة إظهار تطبيقها لمعايير صارمة في هذا المجال لن تُمَكِّن الأوروبيين من بلوغ هدفهم المضروب في عام 2021 والمتمثل في الوصول إلى متوسط انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من السيارات قدره 95 غراماً لكل كم واحد، وان بعض شركات انتاج السيارات الفرنسية والألمانية تضغط على حكومتيهما من أجل تأخير موعد هدف التخفيض الجديد المفترض بدء سريانه اعتبارا من عام 2025 – لم تكد تمضي بضعة أسابيع على هذا الاتهام الصريح حتى انفجرت فضيحة شركة السيارات الألمانية الشهيرة فولكسفاجن، عندما كشفت السلطات الرقابية الأمريكية ومنها وكالة البيئة الأمريكية (Environmental Protection Agency -EPA) في شهر سبتمبر/أيلول الماضي بأن الشركة تركب «أجهزة إبطال مفعول» (Defeat devices) على مركباتها العاملة بالديزل وظيفتها مخادعة الفحوصات الخاصة بقياس انبعاثات أكاسيد النيتروجين، وانه تم اكتشاف هذه الأجهزة حين خضعت المركبات لفحص الانبعاثات. حيث اتضح أن الانبعاثات الكربونية التي تنفثها هذه السيارات تفوق وهي على الطريق تلك التي تظهرها أجهزة القياس خلال الفحص. وقد اتهمت السلطات الرقابية الأمريكية صراحةً شركة «فولكسفاجن» بتركيب أجهزة إبطال مفعول قياس انبعاثات أكسيد النتروجين على سياراتها الفارهة سعة 3.0 ليترات ديزل من نوع بورش وأودي وفولكسفاجن.
وكان ذلك كافيا لأن يهوي سعر سهم الشركة في البورصات العالمية، وأن تضطر الشركة إلى التخلص من رئيسها التنفيذي مارتن وينتركورن وخمسة آخرين في الإدارة العليا للشركة في محاولة لامتصاص ضراوة الهجمة الإعلامية والقضائية التي بدأت فصولها في الولايات المتحد وأوروبا والتي ستضع الشركة في موضع شركة بي بي حين دخلت في دوامة دفع التعويضات عن انفجار أحد حفاراتها النفطية في خليج المكسيك. إذ يقدر بأن تصل تعويضات فولكسفاجن للسلطات الأمريكية إلى حوالي 18 بليون دولار.
المؤكد أن هذه الفضيحة قد وضعت الاتحاد الأوروبي في حرج شديد. فلطالما اعتبر نفسه أنه عراب وقائد المسيرة العملية لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الستة وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون. وتعتبر مفوضيته مشروعها القانوني الذي يجبر شركات السيارات على خفض انبعاثات مركباتها، أحد انجازات بلدان الاتحاد الأوروبي التي تفاخر بها حتى أمام الولايات المتحدة التي أنشأت هي الأخرى نظامها الخاص بخفض انبعاثات السيارات. وما زاد الطين بلة، ما كشفت عنه صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية أواخر الشهر الماضي بأن المفوضية الأوروبية كانت على علم باحتيال شركات صناعة السيارات على اختبارات انبعاثات وقود الديزل قبل أكثر من عامَين على الكشف عن الغش الذي تورّطت فيه شركة «فولكسفاجن» في الولايات المتحدة. ووفقا للصحيفة، فإنه وبحسب وثائق داخلية في المؤسسة الأوروبية قالت إنها حصلت عليها، فإنّ «المفوّض المسؤول عن البيئة آنذاك، يانيز بوتوتشنيك، كان قد حذّر زملاءه عام 2013، ولكنّ بروكسل لم تتّخذ أي إجراء ضد هذه الممارسة، وإنه أشار إلى هذه المشكلة في رسالة بعث بها في فبراير/شباط 2013 إلى مفوض السياسة الصناعية أنطونيو تاجاني».
ولأن هذا الاستحقاق الذي أُجبرت شركات إنتاج السيارات على الالتزام به، يتطلب إما تقديم تنازل جزئي عن تنافسيتها في السوق بمخصصات إنفاقية إضافية على تكنولوجيا تؤمن مطلب هذا الاستحقاق ومن ثم تحميله على سعر المبيع النهائي للسيارة، أو التحايل على هذا الاستحقاق بتقليص متطلبات الوفاء به إلى الحد الأدنى كما فعلت بعض شركات السيارات التي تم ضبطها – لذلك عمدت السلطات الرقابية لتقديم محفزات للشركات التي تبتكر تكنولوجيا تسهم في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هي عبارة عن شهادات انبعاثات سيُعمل بها في الاتحاد الأوروبي لمقابلة هدف التخفيف الخاص بعام 2021، وهو خفض انبعاثات السيارات من ثاني أكسيد الكربون إلى 95 غراما لكل كم واحد، أي استهلاك حوالي 4.11 ليتر لكل مئة كم من البنزين أو 3.61 ليتر من الديزل لكل مئة كم.
هذه لم تعد استحقاقات محلية، وإنما بدأت بالتحول فعلا إلى استحقاقات عالمية ستطبقها الدول عاجلاً أو آجلاً للوفاء بالتزاماتها في مجال التخفيف (Mitigation) التي نصت عليها اتفاقية باريس الأخيرة لتغير المناخ. وحادثة التدليس المشار إليها آنفاً، لن تغدو أكثر من حادثة معزولة في إطار الالتزام العام بضوابط انبعاثات السيارات الآن وفي قادم الأيام. إلى ذلك، فقد شرعت بعض الدول في فرض ما تسمى بضريبة الازدحام المروري (Congestion tax) على درجات مختلفة، الأولى حين تعبر السيارة طرقا بغض النظر عن الوقت، وثانية حين تعبر طريقا في وقت الذروة، ونوع ثالث يُجبى لمرة واحدة حين تعبر السيارة طريقا في ساعة الذروة. وقد فرضتها سنغافورة كأول دولة في العالم ليس لأغراض بيئية وإنما للتعامل مع الازدحام المروري. وتطبق هذه الضريبة أيضا أمانة العاصمة البريطانية لندن، حتى إن عمدة نيويورك يريد أن يطبقها في ولايته باعتبارها الأفضل، لكن حكومة الولاية رفضت ذلك. وكذلك مدينة سان فرانسيسكو التي تعتقد أن فرضها يمكن أن يخفض انبعاثات السيارات من غازات الاحتباس الحراري بنسبة 15% .
حرر في: 20/01/2016