في مطالع هذه الألفية استقال من منصبه وزير الاقتصاد في حكومة ولاية برلين بألمانيا، واسمه جريجور جيزي مخلفاً وراءه أزمة وتساؤلات، والرجل كان أحد كوادر الحزب الاشتراكي الذي حكم الشطر الشرقي من ألمانيا قبل إعادة توحيدها إثر سقوط جدار برلين، ولكنه انخرط في الحركة الاحتجاجية ضد الحزب بعد أن أدرك أن أوجه الفساد بلغت مبلغاً لا يطاق.
بعد انهيار النظام الحاكم في شرقي ألمانيا واجه الحزب أزمة حقيقية، لكن جيزي لم يتنكر لفكرته، ولم يلتحق بالقوى الصاعدة التي أرادت الثأر من الماضي، وإنما اختار الطريق الأصعب: البقاء في الحزب وتجديده وضخ دماء جديدة إليه، وسرعان ما صعد نجم جيزي كسياسي وخطيب مفوه، مكَّن حزبه من أن يأتي في الصدارة في أول انتخابات نيابية، وأن يصبح هو وزيراً.
في ذروة مجده أعلن الرجل تنحيه عن مهامه القيادية في الحزب، ليعود عضواً فيه فحسب، رغم إلحاح أعضاء حزبه عليه بالبقاء في منصبه.
في كل الدنيا المتحضرة يستقيل القادة، رؤساء كانوا أو وزراء، من مناصبهم حين يشعرون بأنهم سبب في إخفاقات تعرضت لها الأحزاب أو الحكومات التي يرأسونها، أو حين يتقدم بهم العمر، فيمنحوا أنفسهم فرصة الاستمتاع بما تبقى لهم من سنوات في كتابة مذكراتهم أو رعاية حدائق بيوتهم، أو اللعب مع أحفادهم وغيرها من متع الحياة.
لكن لا شيء من هذا ينطبق على صاحبنا جريجوز جيزي، فقد قاد حزبه إلى نجاحات بينة، وكان وزيراً كفؤاً، وإلى ذلك فإن عمره كان حينها دون سن التقاعد، وكان السبب الذي قدمه في رسالة استقالته من مناصبه غير مألوف.
قال جيزي إنه بحكم سفراته المتعددة، كونه وزيراً للاقتصاد وعضواً في البرلمان، تجمَّع عنده ما يعرف لدى شركات الطيران بالأميال الإضافية التي بموجبها يمكن الحصول على تذاكر سفر مجانية، وأنه مع الوقت صار يستفيد من هذه التذاكر في سفرات خاصة به وبأفراد أسرته.
ورغم أن الأمر قانوني جداً، وليس فيه أي شبهة للفساد أو السرقة أو الرشوة أو الاحتيال، لكن جيزي قال إنه بدأ يشعر بالرفاهية، ولا يريد أن يتآلف مع هذه الرفاهية التي ما كانت ستأتيه لولا منصبه، لذا فإنه يفضل الاستقالة والعودة إلى وظيفته محامياً، وعضواً عادياً في الحزب.
هذه حكاية عن الرفاهية، وعن العلاقة بينها وبين المنصب، لا ضير في قصها، فلعل فيها ما يفيد.
28/12/2015