تتوالى الضغوط على النفط من كل جهة، في وقت فقد فيه سعر برميل النفط نحو 60% من قيمته التداولية منذ مطلع العام الجاري. من بين هذه الضغوط المرتبطة بالسياسات الجديدة المعتمدة من قبل كبريات الدول المستهلكة لمصادر الطاقة وبضمنها النفط، لمكافحة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتسببة، بحسب تقارير الهيئة الحكومية لتغير المناخ، في ارتفاع درجة حرارة الكوكب الأرضي إلى مستويات تهدد بحدوث كوارث طبيعية يمكن أن تكون مدمرة لعدد من البلدان الجزرية والساحلية – من بين هذه الضغوط، المبادرات والمشاريع الجريئة لتقليل كمية الغازولين المستخدم في السيارات ووسائل النقل الأخرى باعتبارها مقاربة رئيسية لخفض انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي تنفثه السيارات في الغلاف الجوي.
تعتبر أوروبا، ومنظومتها الاقتصادية التكاملية، الاتحاد الأوروبي، صاحبة الصوت الأعلى في المطالبة العالمية باتخاذ إجراءات راديكالية، جريئة، للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (6 غازات هي على التوالي بحسب حصتها الأوفر في هذه الانبعاثات: غاز ثاني أوكسيد الكربون CO2 (مصادره الوقود الأحفوري وصناعة الأسمنت وأنشطة استغلال الإنسان للأرض والغابات)؛ غاز الميثان CH4 (مصدره الوقود الأحفوري والنفايات وإحدى طرق زراعة الرز)؛ وأوكسيد ثنائي النتروجين (Nitrous N2O) ومصدره الأسمدة الكيماوية والعمليات الصناعية وعمليات الاحتراق الداخلي للآلات؛ ومركبات الكربون الهيدروفلورية والمصدر الرئيسي لانبعاثات هذا الغاز هي صناعة الألمنيوم، وهو وإن كان لا يضر طبقة الأوزون، بل إنه على العكس يستخدم كبديل للغازات المسببة لتآكل طبقة الأوزون، إلا أنه يدخل ضمن الغازات المشمولة في بروتوكول كيوتو نظراً لبقائه في الجو مدة طويلة وتحوله إلى غاز احتباس حراري؛ ومركبات الكربون المشبعة بالفلور؛ وﺳﺎدس ﻓﻠﻮرﻳﺪ اﻟﻜبرﻳﺖ.
ولما كان غاز ثاني أوكسيد الكربون يحوز النسبة العظمى من إجمالي انبعاثات الغازات الستة المذكورة آنفاً (82% في الولايات المتحدة، ويصل إلى نحو 70% في المتوسط العالمي)، ولما كان الوقود الأحفوري مصدره الأساس بحسب ما قررته الهيئة الحكومية لتغير المناخ وبضمنه النفط، ولما كان قطاع النقل والمواصلات أحد أبرز القطاعات المستهلكة للوقود (للنفط في صورته المكررة «الغازولين»)، حيث تبلغ حصة انبعاثات السيارات 12% من إجمالي الانبعاثات الأوروبية من ثاني أوكسيد الكربون – فقد اتجهت إرادة المُشَرِّع الأوروبي إلى وضع تشريعات للحد من استهلاك وقود المركبات ورفع كفاءة استخدامه. ومن هذه التشريعات المُستَهدَف تحقيقها في عام 2015 الجاري، عدم السماح لجميع السيارات الجديدة المسجلة في الاتحاد الأوروبي بنفث انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تزيد على 130 غراماً من ثاني أوكسيد الكربون في الكيلومتر الواحد اعتباراً من عام 2015 الجاري، أي ما يعادل استهلاك 5.6 ليتر من البترول لكل 100 كم، أو 4.91 لكل 100 كم من الديزل. علماً بأن متوسط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي تطلقها السيارات التي بيعت في عام 2014 كان 123.4 غرام من ثاني أوكسيد الكربون للكيلومتر. ومنذ تطبيق هذا التشريع انخفضت انبعاثات السيارات بواقع 17 غراماً من ثاني أوكسيد الكربون في كل كم واحد، أي بنسبة 12%. وتم وضع ضوابط مشابهة لسيارات النقل الكبيرة والشاحنات. واعتباراً من عام 2021 سيكون الهدف خفض انبعاثات السيارات من ثاني أوكسيد الكربون إلى 95 غراماً لكل كم واحد، أي استهلاك نحو 4.11 ليتر لكل مئة كم من البنزين أو 3.61 ليتر من الديزل لكل مئة كم. وحاصل جمع نتائج أهداف التخفيض لعامي 2015 و2021، يشكل خفضاً نسبته 18% و40% على التوالي مقارنة بعام 2007 لأسطول السيارات في أوروبا الذي كان متوسط انبعاثاته 158.7 غرام من ثاني أوكسيد الكربون لكل كم واحد. واذا ما زاد متوسط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون لدى مصنعي السيارات عن الحد المسموح به كل عام منذ 2012، فإنهم سيدفعون غرامة بواقع 5 يورو عن كل أول غرام/كيلومتر، و15 يورو عن ثاني غرام/كيلومتر، و25 عن ثالث غرام/كيلومتر، و95 يورو عما يليها. واعتبارا من عام 2019 ستكون الغرامة 95 يورو عن أول غرام/كيلومتر. بالمقابل فإن منتجي السيارات الذين يطورون تقنيات لخفض الانبعاثات من السيارات، سيحصلون على شهادات (كوبونات) انبعاثات توفيرية. وفي وسع منتجي السيارات أن يتعاونوا في هذا المجال لتحقيق هدف الخفض والحصول على هذه الشهادات. ويُطلق على معايير انبعاثات المركبات في الاتحاد الأوروبي يورو 1، يورو 2، يورو 3، يورو 4، ويورو 5.
الولايات المتحدة التي لم تنضم إلى بروتوكول كيوتو كي لا تلزم نفسها بحصة خفض الانبعاثات المقررة عليها، هي الأخرى وضعت لنفسها معايير لانبعاثات السيارات تشرف عليها وكالة حماية البيئة الأمريكية، حتى إن بعض الولايات مثل ولاية ماساسوشيتس، أبدت تحدياً لضوابط وكالة البيئة الأمريكية.
ومؤخراً انتقدت وسيلة إعلامية اقتصادية بريطانية، هي مجلة «الإيكونومست»، ما أسمته بالتدليس الذي تمارسه مؤسسات الاتحاد الأوروبي في طريقة احتساب كمية خفض انبعاثات السيارات الأوروبية من ثاني أوكسيد الكربون، واعتبرتها مخادعة ومبالغاً فيها. وزعمت بأن تطبيق معايير صارمة في هذا المجال لن تُمَكِّن الأوروبيين من بلوغ هدفهم المضروب في عام 2021 والمتمثل في الوصول إلى متوسط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من السيارات قدره 95 غراماً لكل كم واحد، وإن بعض شركات انتاج السيارات الفرنسية والألمانية تضغط على حكومتيهما من أجل تأخير موعد هدف التخفيض الجديد المفترض بدء سريانه اعتباراً من عام 2025.
وفي تقديرنا، أن توافق أعضاء المؤسسة التشريعية الهندية على سَن هذين التشريعين، والسرعة التي تم إقرارهما بها في برلمان عُرف ببطء حركته وقراراته، يعكس استفاقة مبكرة لدى كل من السلطة التنفيذية (الحكومة) والسلطة التشريعية، في ما يتعلق بضرورة التصرف السريع وبمسؤولية إزاء تمخضات الانفلات بعيداً عن الدور التقليدي الذي ظلت تضطلع به الدولة الهندية منذ ما بعد الاستقلال كدولة راعية لشبكة برامج الرعاية الاجتماعية الموازية لديناميات النمو الاقتصادي الصلدة.
حرر في: 24/12/2015