ذات مرة – وفي أحد البلدان العربية ألقت الشرطة القبض على رجل كان يبيع تأشيرات مزورةً للراغبين في الذهاب للعمل في البلدان النفطية لقاء مبالغ كبيرة. الصحافة وصفت الرجل بأنه «بائع الوهم». أعجبني هذا الوصف، لأن ما يقوم به الرجل هو- فعلاً- بيع الوهم لأناس تتضاد رغباتهم مع واقعهم ويتطلعون لتحسين هذا الواقع عبر تحقيق هذه الرغبات أو بعضها، وهي بالمناسبة رغبات مشروعة ومبررة، لكن المسافة بين الرغبة والواقع ليست سهلة الاجتياز، وأحياناً تكون عصيةً.
وهنا تنشأ الأوهام التي وإن كان لها وجه يتصل بالحلم، فإن وجهها الآخر ضلالة، جانب الحلم في الوهم يتجلى في تصورك لواقع متخيل تصنعه الرغبات المخفية أو المكبوتة وأحياناً المعلنة، أما جانب الضلالة فيتجلى في تصديق المرء بأن حلمه قد تحقق أو هو على وشك التحقق. وأخطر ما في الوهم هو اليقين الذي يستحوذ على الشخص الواهم بأن وهمه ممكناً دون أن يخضعه لما يمكن أن نسميه الاختبار الموضوعي للأشياء والأحوال. وحيث يعم الجهل تتسع مساحة الأوهام، لأن حصانة الإنسان البسيط العادي بوجه الأوهام ضعيفة وقابليته لتصديقها كبيرة، فيعوض الوهم ما هو غير متحقق من سعادة مرغوبة.
ويحدث أحياناً أن نخلق هذا الوهم بأنفسنا وبمعرفتنا ثم نصدقه، للدرجة التي نكاد معها ننسى أننا من خلق هذا الوهم أو ابتكره، وذات مرة روت لي سيدة كيف أن إحدى صديقاتها ألحت عليها في جلسة نسائية أن تقرأ لها الفنجان، ورغم أنها ليست خبيرةً في ذلك، لكنها تطوعت بأداء هذه المهمة، وراحت تفسر للصديقة ما تقوله الخطوط التي خلفتها بقايا البن في قاع الفنجان، ووجدت الصديقة راحةً فيما تسمعه من صديقتها؛ لأن بعض ما قالته صدف أن تطابق أو اقترب من هواجسها، والأمر الذي بدا في البداية مجرد تسلية في جلسة عابرة، أضحى عادةً، فكلما شعرت المرأة بالضيق من أمر لجأت إلى الصديقة كي تقرأ لها الفنجان.
ونفهم من هذا أن للأمر صلةً بما يمكن أن ندعوه قوة الإيحاء. وقرأت مرةً كيف أن الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ لجأ مرةً – وربما أكثر- إلى منجم ليقرأ له طالعه، كان ذلك في أربعينيات القرن العشرين، وكان محفوظ لما يزل شاباً، في ذلك العمر الذي يتصف بالحساسية العالية تجاه المنغصات وبواعث القلق، كان اسم المنجم (فردي)، ويقيم في شارع فؤاد باشا في القاهرة، الذي قال لمحفوظ: «أنا شايف حياتك ورق وأقلام، وأنه سيكون لك مستقبل كبير قوي، وإن كان من ناحية الرزق ستكون مستورة ما تطمعش في أكثر من كده».
برأي نجيب محفوظ أن (فردي) كانت عنده فراسة شديدة، رغم أن الذي أخبره به ليس أكثر من «كلام»، ويمكن أن ينطبق على أي موظف مصري، حيث حياته كلها ورق، ودخله محدود.
والشخص الذي يبيع التأشيرات المزورة، أو المنجم (فردي) الذي كان نجيب محفوظ يلجأ إليه، ليسا سوى نموذجين متواضعين لباعة الأوهام المنتشرين في الحياة، فصناعة الوهم حرفة تقوم بها مؤسسات كبيرة عابرة للقارات في عصرنا الراهن، تلف هذه الأوهام بورق السيلفون وتعلبها في علب أنيقة وتصدرها لبقاع الأرض المختلفة، متوسلةً لمختلف أساليب الإبهار والخداع والكذب التي تقوم بها شركات متخصصة تعتمد منجزات علم النفس في قوة الإيحاء والتأثير لتستحوذ على عقول ملايين البشر الذين يقبلون على شراء البضائع، أو المخاطرة بمدخراتهم في مشاريع سرعان ما يتكشف زيفها.
الوهم حالة تنفذ إلى خلايانا، وتتسرب إلى تفاصيل حياتنا الدقيقة، تحيلنا من الواقع إلى معادله الرمزي، تسربلنا بأكذوبة كبرى نكتشفها عادةً بعد فوات الأوان، أما باعة الوهم – أفرادًا ومؤسسات – فلهم من قوة الحضور والنفوذ بحيث تجدهم عبر شاشة التلفزيون وفي شركات مالية ومصرفية، وفي أناس يصنعون الرأي العام ويقولبونه وفق ما تقتضي المصلحة؛ حتى تغرق الناس في ضلالة الوهم وتفقد إرادة الفعل. كان مارشال ماك لوهان بين أوائل من تحدثوا عن «القرية العالمية»، وسرعان ما جرى تداول هذا المصطلح على نطاق واسع في أرجاء المعمورة، بل أن «أطراف» النظام الرأسمالي العالمي، تمييزًا لها عن مركزه، صارت تروج لهذه المقولة بحماس شديد مصدقةً أنها محتواة بالفعل داخل هذه القرية، وأن لها من الحقوق والواجبات ما لدى سكان القرية الآخرين.
التكنولوجيا الحديثة، خاصةً تكنولوجيا المعلومات ووسائطها: الحاسوب وشبكة الإنترنت والفضائيات قادرة على خلق هذا الوهم وتزييف الوعي، لأنها تحجب الفوارق الجوهرية بين الواقع – من حيث هو واقع بشر من لحم ودم وأفكار ومصالح متضادة – وبين الواقع الافتراضي الذي يوحي بنهاية جغرافية المكان، ونشوء جغرافيا جديدة خالية من الحدود، وإزاء هذا الكرنفال الواسع من النشوة بسقوط الواقع نفسه أمام سطوة الواقع الافتراضي، يجري إغفال حقيقة أن المتمكنين من استخدام وسائط هذا الواقع البديل، يظلون أقليةً في هذا العالم الواسع من القارات والثقافات والانتماءات العرقية والدينية الذين ما زالوا أبعد من ما يكونوا عن أن يتحولوا إلى سكان قرية صغيرة يعرفون بعضهم بعضًا.
ثمة إحصائية استشهد بها الدكتور علي أومليل في إحدى دراساته عن الموضوع فحواها أن نصف سكان الأرض لا يملكون حتى الهاتف، فكيف لنا أن نتخيل إمكانية استيعابهم في هذه القرية الكونية المفترضة طالما كانوا على هامشها؟
إن التقانة الحديثة – كما كان الحال فترة الثورة الصناعية – هي وسائل سيطرة ونفوذ بيد القوى الكبرى، القوى النافذة القادرة على إخضاع العالم ونهب ثرواته وغزو أسواقه ببضائعها. وتجير هذه الإنجازات العلمية الكبرى لتحقيق الأهداف الخاصة بها، خاصةً أن ما يعرف بالاقتصاد الجديد القائم على منجزات الثورة المعلوماتية والوسائط الرقمية يشكل الآن حوالي 80% من الناتج العالمي الخام، حيث يجري دمج البحث العلمي في الاقتصاد، لا بل وإعطائه دورًا قياديًا فيه ليذهب به نحو اكتشافات ومواقع جديدة، وهو أمر يعني أن البلدان المتخلفة، مهما سعت لمجاراة العالم المتقدم ستظل متخلفةً، وتكفي الإشارة إلى أن حصة البحث العلمي في العالم العربي لا تتجاوز 0,1%، فيما تبلغ في الدول المتقدمة نسبةً تفوق 3%.
(الميديا) المعاصرة لا تقول لنا – وهي تخاطبنا ليل نهار- كيف يجب أن نفكر، وإنما تقول لنا تحديدًا بماذا يجب علينا أن نفكر. هي تخترع لنا الموضوعات والاهتمامات، وهي قادرة بحكم ما لديها من سطوة على أفكارنا ومجمل نمط حياتنا أن تجعل هذه الموضوعات والاهتمامات شغلنا الشاغل، ليس بوسعنا أن نفرض نحن الحدث على هذه (الميديا) ، بل بالعكس هي التي «تصنع» الحدث، ثم تجعله مقررًا علينا ولا فكاك لنا منه؛ لأننا حتى لو كنا في أبراج مشيدة فإن هذه الميديا قادرة على ملاحقتنا ونحن في غرف نومنا.
بوسع (الميديا) – والحال كذلك – أن تحجب ما يجري في الواقع، وما يزخر به من نقاشات، وأن تجعل من الهامشي حدثًا أساسيًا، وتجعل من هذا الهامشي محط النقاش الذي ينشغل به الرأي العام. بوسع هذه (الميديا) أن تغرق الرأي العام في صدام مصطنع – غير حقيقي – أو أقلها غير جوهري؛ لينصرف عن الأساسي، وهكذا يجد الناس أنفسهم غارقين في سجالات، وربما في صدامات، هي أبعد ما تكون عن مصالحهم الحقيقية، واهمين بالعكس.
و(الميديا) لا تصنع ذلك لأنها تريده بالضبط، وإنما لأنها تشكل جزءًا من منظومة اختارت لها هذه المهمة. الإعلام – حسب عالم الاجتماع الفرنسي بورديار- أصبح ضحيةً للنظام الإعلامي، فليس بوسع أداة إعلامية إذا أرادت أن تكون مغايرةً أن تصبح كذلك بالسهولة التي يتوخاها القائمون عليها؛ لأنها لا يمكن أن تعمل خارج ال(سيستم) القائم الذي لايطيق أن يخرج أحد عن إجماعه. مهمة هذا الـ(سيستم) هو خلق الإجماع بين الأفراد والمؤسسات المنضوية تحته ثم فرض الإجماع على مجمل الفضاء العام الذي يغطي مساحةً شاسعةً هي مساحة المجتمع، أو مساحة ما يعرف بالرأي العام؛ لأن بوسع النظام الإعلامي أن يكيف هذا الرأي العام وفق ما يشتهي.
وما كان الأمر سيكون على هذا القدر من الخطورة لولا أن (الميديا) نفسها لم تعد حرةً، والحق أنها لم تكن حرةً في المطلق في أي وقت من الأوقات، لكن لم يسبق أن نشأ هذا التحالف بين الميديا وبين المال وأصحابه وبين السلطة. هذا الثالوث هو المعني قبل غيره بأن «يصنع» الرأي العام، وأن يكيف اتجاهاته في مجرى الرياح الملائمة لهذا التحالف، خاصةً في مجتمعات هشة مثل مجتمعنا العربي، تبدو فيها فكرة الرأي العام فكرةً هلاميةً، رجراجةً، على قدر كبير من السيولة والزئبقية، حيث لا يحتكم الرأي العام إلى مؤسسات حزبية حديثة ولا إلى مؤسسات راسخة للمجتمع المدني قادرة على التأثير الذي يعول عليه، فيصبح هذا الرأي العام أسيرًا للمتلاعبين به.