مما لا شك فيه أن كل التحليلات تشير الى توقعات بتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي مقارنة بالتقديرات السابقة، فقد خفض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي الى نسبة 3.3% مقارنة بالنسبة السابقة 3.5% لعام 2015 على أن يصل في العام 2016 الى نسبة 3.8% وفي 2018 الى 3.9% مع استمرار اسعار النفط في الانخفاض منذ سبتمبر 2014 وحتى الآن الى ما دون ال 50%. تشير التقارير الى أن الانخفاض في عائدات النفط لدى الدول المنتجة سيبلغ اكثر من 360 مليار دولار في العام 2015 وبنسبة بلغت اكثر من 21% حتى الآن من الناتج المحلي الاجمالي، وانعكست هذه النسبة على تحقيق غالبية الدول المنتجة لعجوزات في موازناتها العامة.
بطبيعة الحال فان انخفاض اسعار النفط الى أقل من النصف فرض بدوره ضرورة اعادة النظر في سياسات الانفاق العام، وبالنسبة لدول منطقتنا الخليجية تحديدا، التي يمثل النفط العصب الرئيس لاقتصاداتها، فان ذلك سينعكس سلبا على وارداتها واستثماراتها في مشاريع البنية التحتية وتأجيل الكثير من المشاريع الحيوية، وستخلق التراجعات النفطية جملة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تستعد لها دولنا الخليجية على ما يبدو، وهذا ما يفسر حالة الارتباك القائمة على المستوى المنظور والمتوسط. كذلك فان تراجع سياسات الانفاق وتزايد المخاطر السياسية في المنطقة كما يحصل في اليمن وسوريا والعراق وليبيا، سيستدعي بدوره تأجيل خطط ومشاريع تنموية اساسية، وسيحدث اضطرابات وقلاقل داخلية ستجد دول المنطقة نفسها وجها لوجه في التعاطي معها دون اجابات او حلول واضحة لدى هذه الأنظمة. كذلك فان تراجع وتخفيض التصنيف الائتماني لبعض دولنا الخليجية بشكل عام سيزيد الأوضاع سوءا وسينعكس على تنافسيتها وشل قدرتها على استقطاب الاستثمارات وبالتالي سيعيقها من امكانية التعاطي الايجابي مع مسائل جوهرية كالبطالة وتراجع فرص العمل وزيادة الأجور والأوضاع المعيشية، وسيضعف الى حد بعيد قدرتها على الانفاق على المشاريع الاسكانية والتعليمية والصحية والخدماتية الأخرى، في مقابل الزيادة المضطردة في عدد السكان بالنسبة لحصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في دول مجلس التعاون.
اما بالنسبة لتراجع معدلات النمو العالمي كما يحدث في الصين باعتبارها من بين اهم مستهلكي النفط في العالم، فان ذلك سينعكس سلبا على دول المنطقة ايضا، المعتمدة اساسا على النفط كمصدر رئيس للدخل وذلك كنتيجة لتراجع طلب الصين على هذه السلعة العالمية.
أما بالنسبة لأوضاعنا في البحرين فان هناك قضايا اقتصادية واجتماعية غاية في الأهمية تشكل في مجموعها تحديات كبرى أمام الحكومة والشعب لاقتصاد صغير محدود الموارد، يعتمد اساسا على المساعدات من دول الجوار وعلى أكثر من 85% على عائدات النفط، فقد بلغ الدين العام حتى الآن أكثر من 54% من الناتج المحلي الاجمالي بحسب التقرير الأخير لشركة كامكو للاستثمار، وهو مرشح للصعود بشكل كبير خلال السنتين القادمتين جراء استمرار تضخم العجز في الموازنة العامة مما استدعى ان يصدر ملك البلاد حزمة من المراسيم من بينها مرسوما بزيادة الدين العام ليصل لأول مرة الى 10 مليارات دينار وهو رقم خرافي في تاريخ البحرين، يفوق كثيرا الحد المقبول به عالميا من نسبة الناتج المحلي الاجمالي، كما أن خدمة الدين العام التي تبلغ الآن اكثر من 396 مليون دولار سنويا ستتضاعف تلقائيا خلال الفترة القادمة، علما بأن التقديرات الأولية تخبرنا ان خدمة الدين العام الحالية لوحدها تعادل مجموع ميزانيات ثلاث وزارات اساسية هي التعليم والصحة والاسكان!!
وأمام هكذا أوضاع يصبح طبيعيا أن نسمع باستمرار شكاوى العاملين في القطاع العام ورفضهم للاجراءات التقشفية التي بدأت تأخذ وتيرة متصاعدة، وأولى بوادرها ما صرح به وزير المالية أمام مجلس النواب خلال الفترة القليلة الماضية من أن تراجع اسعار النفط الى ما دون ال 50 دولارا سيعني عدم قدرة الحكومة على دفع رواتب موظفيها، وقد باشرت الحكومة بعدها بالغاء الساعات الاضافية للعاملين لديها، واشتكى اكثر من 400 طبيب من توجه معلن لدى وزارة الصحة بالغاء نظام “الكولات” وتحويله الى نظام نوبات عمل!! علاوة على تقلص ميزانيات عديدة لبعض المشاريع وتوقف مشاريع حيوية وخدماتية عديدة وتقلص وجوه الانفاق بسبب تراجعات اسعار النفط وغيرها انما يؤشر بوضوح على دخولنا في البحرين في وضع اقتصادي واجتماعي حرج للغاية، يضاف اليه استمرار الأزمة السياسية التي تقترب من انهاء عامها الخامس دون افق للحل السياسي في حين تتضخم الأجهزة الأمنية والدفاعية وتتضخم ميزانياتها التي تستنزف أكثر من ثلث الموازنة العامة.
نكتشف من كل ما تقدم من اننا بالفعل مقبلون على أوضاع صعبه، لا ترى الحكومة مخرجا منها الا عبر زيادة الاقتراض لتسديد مديونيتها وليس للاستثمار(!!) والمباشرة في استهداف العاملين والفقراء والشرائح الضعيفة والمتوسطة في اجورها وزياداتها ومكتسباتها ولقمة عيشها ومشاريعها التي استدعت الأزمة تأجيلها أو الغاءها بالكامل، وفي ذلك استجابة مباشرة لتوصيات وتوجيهات صندوق النقد الدولي صاحب الباع الطويل في تخريب البنى والهياكل الاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول العالم تلبية لجشع القوى الرأسمالية المسيطرة على اقتصاد العالم وهي ذات القوى التي توجه سياسات الصندوق وتوظفه للسيطرة على عجلة الاقتصاد العالمي، نذكر فقط أن تاريخ وتوجهات صندوق النقد الدولي في العديد من المراحل والحقب الاقتصادية كان مشينا ومدمرا لاقتصادات ومصالح الشعوب في اميركا اللاتينية وافريقيا، وكذلك في آسيا تحديدا في 1997 وحتى ابان الازمة الاقتصادية العالمية في 2008 فقد فشلت تلك السياسات ودفعت الشعوب الثمن غاليا. ففي الوقت الذي يرفض صندوق النقد الدولي تحميل الشركات الاجنبية ضرائب على ارباحها نراه يستميت في استهداف الشعوب عبر طرحه لما اصطلح على تسميته بضريبة القيمة المضافة على السلع الاستهلاكية والسلع مستهدفا الفئات الضعيفة والمتوسطة دون اي اكتراث بمصالح الفقراء حول العالم، وفي حالة اوضاع البحرين الاقتصادية فلا زالت حكومة البحرين تهتدي وتطبق حرفيا وبكل أسف نصائح وتوجيهات صندوق النقد الدولي دون ان تعطي اعتبارا لحجم الدمار والتراجع الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي المنتظر جراء تلك السياسات، على عكس دولة مثل الكويت التي تتعامل مع بعض ونقول بعض تلك النصائح بحذر وبقرار وطني مستقل، حيث تتجه الكويت نحو فرض ضرائب على ارباح الشركات الأجنبية على سبيل المثال، كما اعلنت عن زيادة بعض الرسوم على الأجانب، وبالنسبة لرفع الدعم فان الكويت وهي دولة غنية كما هو معروف تعتمد منذ عقود على البطاقة التموينية التي لا تريد حكومة البحرين حتى سماع صوت مجلس النواب المطالب بها وذهبت سريعا لفرض سياسة رفع الدعم عن السلع الأساسية التي تتفاعل الآن بقوة في الشارع البحريني، مما استدعى استمرار اضراب القصابين وامتناع الغالبية الكاسحة من المواطنين عن بيع وشراء اللحوم الأمر الذي استدعى ان تطرح الحكومة امكانية اعادة مناقشة البطاقة التموينة مجددا .. ولكن كيف؟! لا ندري حتى الآن. وعلى الجانب الآخر فاننا نستغرب من استسهال الحلول عبر استهداف الفقراء والفئات الضعيفة دون مجرد سماع ما تطرحه قوى المعارضة من بدائل حقيقية من شأنها تجنيب الوطن وابناءه الكثير من المعاناة، فقد طرحنا بعضا من البدائل مثل فرض ضرائب على ارباح الشركات الأجنبية وتوجيه الدعم بصورة حقيقية للمواطنين فقط، كما طالبنا ولازلنا نطالب برفع اسعار الغاز المباع للشركات والمصانع ولو بنسب قليلة وكذلك فرض رسوم على تحويلا الأجانب المالية والتي تبلغ اكثر من 2.5 مليار دينار سنويا، مما سيوفر لخزينة الدولة اموالا طائلة تغنيها عن استهداف قوت فقراء الوطن، مع ضرورة تقليص الانفاق الأمني والعسكري ومحاربة الفساد المستشري في اجهزة الدولة والذي يستنزف الموازنة منذ سنوات دون توقف.
ويجدر بنا ان نتساءل مع هكذا اوضاع مقلقة عن مصير رؤية البحرين 2030 التي اتخذت لنفسها شعارا يكرس الاستدامة -والعدالة- والتنافسية واين اصبحت يا ترى؟! فيما يستمر التخبط الرسمي عبر قرارات مثل التوجه لرفع سن التقاعد الى 65 سنة والأدهى من ذلك الحديث عن خصخصة هيئة التأمينات الاجتماعية التي اضحت تسجل عجزا تجاوز 11.2 مليار دينار، وبذلك فان الدولة تتجاوز ما اضحى حقا مكتسبا كرسته معايير الدولة الرعوية المعمول بها كما انها تتجاوز المكاسب الدستورية للمواطنين وحقهم في الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية في سن التقاعد والشيخوخة والحق في التعليم والقضايا المتعلقة بالصحة وغيرها. ولازلنا نجهل حتى اللحظة حجم الوفر الناتج عن الاعلان تقليص ودمج عدد من الهيئات والوزارات الذي طالبنا به منذ سنوات طوال حتى بحت اصواتنا بغية تقليص وجوه الفساد والنفقات، ونستنتج من كل ذلك ان شعارات الاصلاح يجب ان تكرس تحولا نوعيا في المعالجات وطرق ادارة الدولة والأموال العامة ومؤسساتها وأن لا تكتفي بالشعارات أو ان تقوم على ردود الأفعال التي تفرضها تعقيدات الأزمات الاقتصادية والسياسية المتناسلة، وانما يجب ان تأتي ضمن سياقات مشروع اصلاح اقتصادي وسياسي يقوم على استراتيجية واضحة المعالم تستشرف بناء الدولة المدنية العصرية المنشودة التي تكرس العدالة والتنافسية والحفاظ على الثروات، ولن يتحقق ذلك طالما بقيت المسألة السياسية دون حل وطالما بقي الاعراض الرسمي عن الدخول في شراكة وطنية تؤسس لعملية بناء حقيقية بعيدا عن ما نعايشه من وجوه فساد ونهب وتعد على ممتلكات الدولة وثروات الوطن او تفرد بقرارات غير مدروسة، وكجزء رئيس من المعارضة السياسية نمد ايدينا نحو شراكة حقيقية غير منقوصة لبناء الوطن والحفاظ على استقراره وتنميتة المستدامه بعيدا عن “روشتات”
خارجية لصندوق النقد الدولي أو وصفات أخرى مشابهة اثبتت التجربة انها قدمت لنا حلولا خربت الاقتصاد وضربت التنمية وأضرت بالاستقرار وأضاعت الوقت والثروات دون طائل.