عبدالله خليفة في
تقديري، وأعتقد في تقدير الكثيرين غيري من المهتمين بتاريخ الثقافة الوطنية في البحرين،
هو واحد من أهم رموزنا الثقافية وأكثرها غزارة وعمقاً في العطاء، خلال الخمسين عاماً
الماضية، ورغم حضوره الدائم في حياتنا الثقافية طوال العقود الماضية، ألا أنه سيزداد
حضوراً في ذاكرتنا الوطنية بعد رحيله، أو هكذا يجب أن يكون، فنحن في أمس الحاجة لإعادة
اكتشافه، والوقوف أمام عطاءه المتنوع الثري، فثمة الكثير من الجوانب في نتاج عبدالله
المتنوع ما زالت بحاجة إلى من يضيئها، والكثير من مؤلفاته بحاجة إلى نشر وتوزيع للوقوف
على ما قدمه الراحل من إنجاز أدبي ونقدي وفكري
.
سبق أن تحدثتُ في
مناسبة سابقة لتأبين الفقيد عن الأوجه المتعددة لنشاطه الفكري والمجتمعي، فهو المناضل الذي التحق منذ سنوات صباه يوم كان لايزال
طالباً بالمدرسة الثانوية في صفوف جبهة التحرير الوطني، مُنَظِماً ومُثَقِفا للخلايا،
ومنخرطاً في العمل الجماهيري. دفع عبدالله ضريبة انحيازه الوطني بالسجن لسنوات طويلة
وبالفصل من العمل وبالمحاربة في الرزق، وخرج من السجن وهو أكثر ثباتاً على مبادئه ومواقفه،
وعبدالله خليفة هو المبدع، كاتب القصة القصيرة، الذي ولج عالم القصة القصيرة بعد سنوات
قليلة من نشر قصص محمد عبدالملك ومحمد الماجد وخلف أحمد خلف وسواهم. لا جدال ان عبدالله
كان أكثر كتاب القصة القصيرة غزارة في الانتاج، وأطولهم استمراراً في كتابتها، حيث
لم يتوقف عن ذلك حتى وفاته
.
وعبدالله خليفة هو
الروائي الذي أتى الى الرواية من باب القصة القصيرة. شِأنه في ذلك شأن محمد عبدالملك
وآخرين من كتاب القصة القصيرة الذين تحولوا الى كتابة الرواية. كما في القصة القصيرة
فان عطاء عبدالله الروائي هو الأغزر والأكثر تنوعا بين نظرائه، حكماً من المعطيات التي
توفرت بعد رحيله يمكن القول انه ترك لنا نحو ثلاثين رواية، بعضها منشور وبعضها لايزال
على شكل مخطوطات. وعبدالله خليفة هو الناقد، ففي ساحة أدبية ثقافية وأدبية يشح فيها
النقد، لم يكتف عبدالله خليفة بعطاءه الابداعي في الرواية والقصة القصيرة، وإنما ولج
باكراً عالم النقد الأدبي، فكتب مقالات ودراسات نقدية عن تجارب زملائه من الكتاب البحرينيين
سواء المخضرمين منهم مثل محمد عبدالملك وأمين صالح أو حتى من الأجيال الجديدة. لم يكتف
عبدالله بنقد التجارب الأدبية المحلية، السردية منها بشكل رئيس، وإنما انفتح على ساحة
الابداع الخليجي. أكثر من ذلك انفتح عبدالله على الأفق النقدي العربي فكتب دراسات مهمة
بينها بحثه المهم عن الرواية عند نجيب محفوظ
.
وعبدالله خليفة هو
كاتب المقال الصحافي، حيث اختط لنفسه في مقاله اليومي نهجاً لم يحد عنه، هو نهج الفكر
التنويري والنقدي الذي لم يهادن فيه الدولة ولا المعارضة فيما يراه أخطاء وقصوراً في
أداءها
.
وعبدالله خليفة هو
الباحث في الفكر والفلسفة، وهو الجانب الذي أود أن أوليه اهتمامي في هذه العجالة، فبحكم
مثابرته وانكبابه على البحث والمطالعة استوى عبدالله خليفة على عدة فكرية ومنهجية عميقة
مكنته في مرحلة لاحقة للذهاب بعيداً في البحث
الفكري والفلسفي، حيث توغل في دراسة التاريخ الفكري الإسلامي والعربي، وهو جهد
أثمر بحثه المهم عن “الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية”،
الذي اعتمد فيه المنهج المادي، الديالكتيكي والتاريخي، في دراسة الظواهر الفكرية والفلسفية
وعلاقتها بالصراعات الاجتماعية والسياسية، وتحولات البنى الاجتماعية على مدار التاريخ
الإسلامي الذي درسه. هذا الانكباب على دراسة التاريخ الاسلامي أتاح له مادة ثرية فائضة،
استفاد منها في كتابة رواياته التاريخية
.
علينا أن نقول أن
جهد عبدالله خليفة هذا يجعل منه واحداً من أبرز المشتغلين بالفكر في المشهد الثقافي
العربي، فأهميته تتخطى نطاق البحرين المحدود، لتشمل الحيز الجغرافي العربي الأوسع،
ولكن مؤلفاته وأطروحاته لم تحظ بالانتشار عربياً، بسبب سوء توزيع المنتوج الثقافي العربي،
وتواضع عبدالله نفسه الذي جعله لا يولي اهتماماً بتسويق اسمه، كما يفعل من هم أقل منه
موهبة وعطاء
.
لا أعلم إلى أية
درجة استوحى عبدالله خليفة فكرة البحث في تاريخ الفلسفة العربية الاسلامية من مؤلف
حسين مروة: “النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية”، مع ملاحظة أن
حسين مروة تحدث عن نزعات، فيما تحدث عبدالله خليفة عن إتجاهات، وأعتقد أن ثمة اتفاقا
بين الرجلين حول هذا الأمر، فالتيار المهيمن في الفلسفة العربية الاسلامية هو التيار
المثالي، فيما لا تغدو المادية، كونها مجرد نزعات أو إرهاصات سعى مروة لرصدها، وعكف
على دراسة مادة تاريخية كبيرة من المؤلفات والأبحاث لينجز بحثه هذا الذي أتى في جزءين
أولاً، صدرا في مجلد كبير واحد يقع في ستمائة
صفحة من القطع المتوسط، تلاه جزء ثالث
.
خصص الجزء الأول
للمرحلة الأولى من التاريخ الإسلامي، ولكنه مهدَّ لها بمبحث عن تطور الوعي الديني في
المشرق القديم، قبل أن يأتي على الدعوة المحمدية التي حرص على وصفها بالثورة، سواء
في كتابه هذا او في روايته المستوحاة عن حياة النبي محمد، مرورا بالعهد الراشدي ثم
الدولة الأموية، متوقفاً أمام التحولات السياسية في بنية الدولة العربية الإسلامية،
وعلاقة الاتجاهات الفلسفية والفكرية بها، أما الجزء الثاني من البحث فكرَس الجزء الأكبر
منه لمرحلة الدولة العباسية وما اختمر فيها من تيارات فكرية وسياسية فاعلة، خاصة تحت
تأثير المثاقفة مع الآخر غير العربي بفعل حركة الترجمة من اللغات الأخرى الى العربية،
وما نجم عن احتكاك العرب بالأقوام الاخرى الذين أصبحوا في عداد الإمبراطورية الإسلامية،
وأصبح لبعضهم، مثل الفرس، نفوذ في دولة الخلافة في بغداد
.
ينطلق عبدالله خليفة
من المسألة الأساسية للفلسفة، المتمثلة في الإجابة على سؤال: أيهما أسبق، الوجود أم
الوعي، ليتبنى الاتجاه المادي للفلسفة الذي يرى أن الوعي نتاج الوجود المادي وليس سابقاً
له، وبالتالي فانه كان يخضع كافة أشكال الوعي، وما ينطوي عليه من ظواهر فلسفية ودينية
وفكرية، للفحص من حيث كونها نتاجاً للتحولات الاجتماعية، أو تعبيراً عن هذه التحولات
.
لذا جاء هذا السفر
الكبير للمؤلف ليتناول ظاهرات الوعي العربي الاسلامي بجانبيه الأساسيين: الدين والفلسفة
وبجذور هذا الوعي الأولى وهو يتشكل وينمو من المرحلة الجاهلية فظهور الاسلام وتشكل
الدولة الاسلامية، ويقر المؤلف أن هذا موضوع ليس جديدا في البحث، فهو كان ولا يزال
مَركزا لدراسات لا تتوقف، ومن هنا جاء تأكيده، من أن هذا الجهد الجديد لا بد وأن يحمل شيئا مختلفا يضيف إلى هذا الكم والنوع الكبير مساحة مختلفة من
الرؤية. لأنه تجشم هذا العناء من أجل أن يطرح وجهة نظر مختلفة، فالعمل، كما يقول، هو
رؤية جديدة الى الوعي العربي تجعله كائناً تاريخياً مركباً، فالوعي العربي الإسلامي
الذي تشكل في الجزيرة العربية لم تبحث جذوره التاريخية الممتدة إلى التاريخ القديم
في المنطقة وإلى تضاريسها الجغرافية الاقتصادية وإلى كونه مستوى في بنية اجتماعية متضادة
متغيرة دوماً، على نحو ما يشرح المؤلف
.
لذا فان عبدالله
خليفة حين يحفر في التاريخ، لا يفعل ذلك كي يدير ظهره للحاضر، بالعكس تماماً، إنه يفعل
ذلك من أجل أن يفهم، ويجعلنا نفهم معه، حاضرنا بصورة أفضل. إن سؤال الحاضر هو الجدير
بالتفكير الفلسفي، وفيه انفتحت أسئلة من نوع ما الذي يحدث الآن وما هو الذي نحيا به
وما هو الشيء الذي له معنى في هذا الحاضر وهل هناك تقدم مستمر للجنس البشري، وهي أسئلة
شكلت المجال الفلسفي الجديد الذي عملت الفلسفة على تحليله ومناقشته
.
يؤكد عبدالله خليفة
في ثنايا الكتاب على التلازم بين الفلسفة والتاريخ والسياسة، ما يجعل موضوع الفلسفة
تشخيصا للحاضر، والحاضر المعني هنا ليس مجمل الآليات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن
للمختصين في هذا المجال وصفها أحسن مما يفعل الفيلسوف، وإنما المقصود هو الترابط بين
حساسية الناس وإختياراتهم الأخلاقية وعلاقاتهم بأنفسهم وفيما بينهم والمؤسسات المحيطة
بهم هنا وفي نقطة التقاطع هذه تظهر المشاكل وحتى الأزمات والتي توجب على مؤرخ الحاضر
وفيلسوف الحاضر وصفها ونقدها معا
.
يمكننا أن نقف ملياً
أمام الخلاصة التي أتى عليها عبدالله خليفة في نهاية بحثه حين لاحظ أن إزدراء العقل
ورفض أدواته مثل التحليل والبرهان والدرس التاريخي والإعلاء مما يدعوه الحدس والشطحات
ترافق، وربما كان عليه أن يقول أدى، إلى إنهيار حثيث ومتصاعد للعلوم الطبيعية والإجتماعية
وإلى تدهور الحالة المعيشية للجمهور وخاصة لأحواله العملية والثقافية، وهي أمور عبرت
كلها عن مرحلة اللاعقل، مرحلة التدهور العقلي للمسلمين التي تتوجت باستيلاء الدروشة
على الشوارع وانتشار الغيبيات الأشد تطرفا حيث راح المصير العام ينطلق خارج الإرادة
البشرية للعرب والمسلمين، فلم تعد الثروة المادية وحدها ضائعة، بل الأرض والإرث والوجود.
كل ذلك يحتاج الى درس معمق في كافة هذه الظواهر كي نفهم وضعنا العربي الراهن
.