انتحر وزير ياباني قبل سنوات، وتحديداً وزير الزراعة، لشعوره بالمسؤولية تجاه مخالفات مالية تتعلق بتبرعات وعقود مزورة حدثت في وزارته..!!
الوزير الياباني بالطبع لم يغيب مسؤوليته السياسية ولم يسارع الى التبرير او التنصل او نفض اليد من المسؤولية، او يبسط هذه المخالفات او يسطح تداعياتها أو يعتمد على من ينتشله منها، وكان بمقدوره أياً كانت الأخطاء والمخالفات التي ارتكبها مرؤوسوه ان يطمس معالمها او يحمل المسؤولية طرفاً او أطرافاً من صغار الموظفين او كبارهم، ولكنه لم يفعل ذلك بل استشعر المسؤولية، وهناك لا يحتاجون الى صحوة لفهم معنى ومغزى المسؤولية، اكترث بالرأي العام وبسخط الناس واعلن على الملأ: «انني وبكل الألم اشعر بالمسؤولية البالغة والتقصير الفادح بصفتي وزيراً مشرفاً مؤتمناً على مسؤولية عامة، واعتقد انه كان يجب عليَّ ان امنع ما وقع لأنني أولاً وبالنهاية المسؤول..
شعور الوزير الياباني عذبه ودفعه الى الانتحار.. وبجانب ذلك لا نستطيع ان نتخلص من الدهشة ونحن نستحضر حالات اخرى كثيرة لوزراء ومسؤولين في دول اخرى عديدة، لم ينتحروا ولكنهم كانوا يعرفون حقاً قيمة المسؤولية ومقتضياتها، مثل حالة رئيس البنك السويسري الذي قدم استقالته لأن زوجته باعت واشترت وحولت من الفرنك السويسري الى عملات اخرى بناءً على معلومات منه، مما أتاح لها تحقيق أرباح ليست متاحة لغيرها، وفي بريطانيا طار مسؤول رفيع من منصبه؛ لأنه سهل منح تأشيرة غير قانونية لمربية اطفال آسيوية، كما طار مسؤول رفيع آخر استخدم المال العام في سفريات ونفقات شخصية..!!
تقفز الى الذهن مباشرة هذه النوعية من الأخبار، نذكر بها ونلفت الانتظار إليها لعلها تعني شيئاً بالنسبة لنا، او يفترض انها تعني شيئاً لا سيما فيما يخص ملف المسؤولية العامة فى واقعنا الراهن، وفي هذه اﻻيام بالذات بعد كل هذا الكم الكبير من التجاوزات والمخالفات والانحرافات والأخطاء والخطايا التي كشف عنها التقرير الجديد الثاني عشر لديوان الرقابة المالية والادارية، وهى التى يمكن ان تهز اي بلد آخر يحاسب بجدٍ وبحسم الجالسين فوق الكراسي ممن يتولون مسؤوليات عامة ويرتكبون الاخطاء الجسيمة بحق الناس والبلد.. ووجدنا هناك كيف ان انحرافات اي مسؤول تفجر العديد من الأصداء والتداعيات في اوساط النخبة ومنابر الرأي العام والجهات المسؤولة.
هل يمكن ان يمر مرور الكرام هذا التراكم من الانكشافات على مواضع خلل وأخطاء وفساد، وإشارات اي الأسباب والمصادر وتظل المسؤولية غائبة او مغيبة، وتهتك وبشكل مروع ابسط قواعدها..؟ ولم يجد المواطن ما يقابل ذلك إلا الكلام المنمق والمكرر والشعارات التي تعطي وهماً باستيعاب مفهوم المسؤولية وتفعيل المحاسبة وتصحيح الاعوجاجات المتراكمة، أما النواب فنحن لا نذهب بعيداً في الطموح بشأنهم، والتعويل عليهم، فهاهم يردحون على وقع التقرير الجديد، ولن نستغرب او نستنكر ان عجزوا عن تفعيل دورهم المفترض والمغيب، فقد تعودنا منهم المراوحة، وان يملئوا الدنيا ضجيجاً ووعيداً وكل ما يدغدغ مشاعر الناس، ولكنهم بالنهاية لا يحققون شيئاً ذا قيمة، هذا ما ألفناه على مدى السنوات الاحدى عشرة الماضية، وها هم اليوم امام امتحان جديد، والرهان قائم اذا ما كان نوابنا جادون في فعل يخالف التوقعات، ويتخطى المشهد العبثي الذي يستحضر عند صدور كل تقرير، فقد بدأ منهم من يعزف على وتر استخدامه للأدوات الدستورية لمحاسبة المتجاورين، وآخرين يلوحون بمساءلة وزير المواصلات واستجواب وزيرة الصحة، وذهب نائب الى تبشيرنا بان سياسة غياب المحاسبة والانفلات من العقاب ولَّت الى غير رجعة، وبالاضافة الى ذلك وجدنا من هم بحسبة سياسيين يعبرون عن استيائهم من المخالفات ويؤكدون بان استمرار الهدر في المال العام يتطلب وقفة أفعال لا أقوال..!!
اذا استحضرتم العناوين التي أوردتها الصحف في الأسبوع الماضي نقلاً عن ما تضمنه التقرير، واذا رجعتم الى أرشيف اي جريدة عبر محرك البحث الشهير «غوغل» لمطالعة فحوى التقارير السابقة وقلبتم صفحة من صفحات النكد وتقليب المواجع، ودققتم في ردود الأفعال حولها، من كل الأطراف، من تهديدات ووعيد وتطمينات، والإصرار على ان ما تتضمنه هذه التقارير بانها مجرد ملاحظات، ستكتشفون، وأظن بأنكم اكتشفتم وانتهى الأمر، ان لدينا مخزوناً من الصبر والتحمل حين جعلنا هذه التقارير في الفعل ورد الفعل عرفاً سنوياً جرى واستقر لينتهي الأمر الى لا شيء، لم نجد وزيراً اعترف بخطأ، او مسؤولاً يستقيل متحملاً مسؤولية خطأ واقع في نطاق عمله او وزارته او الاجهزة التابعة له – المعلوم بان ثقافة اللامسؤولية هي التي تفسر غياب ثقافة الاستقالة – وكأن ما يرصده ويوثقه ديوان الرقابة على نحو متصل منذ اكثر من عقد من الزمن قد جاء من العدم، ومن بمقدوره ان يتابع ويحلل قد يخلص الى ان هناك قدراً من اللامبالاة مثير للانتباه في تضييع او تمييع قيم المساءلة والحساب والعقاب، بل قد يجد من هم معنيون او متورطون بالأخطاء والمخالفات ثابتون في مواقعهم لم يتزحزح اي منهم عن موقعه قيد أنملة، لم يبعد او يقال ولم يستقل منهم احد، ومن تحرك او حرك نحو وضع افضل، والاخطاء والتجاوزات تتكرر كل عام، وبالنتيجة ننتهي الى ان كل ما قيل ويقال بعد صدور كل تقرير مجرد كلام ووعود وأننا لازلنا نراوح في مكاننا رغم الحالات المحددة والمحدودة التي قيل بانها رفعت الى النيابة العامة، لتظل مواطن الضعف والخلل، ومواطن الفساد والتحلل العام تدمغنا بالعجز والعبثية.
هذا ملف لا يمكن تركه للاستباحة الكلامية الجوفاء، والكلام موجه لكل المعنيين، او من يفترض انهم معنيون من مسؤولين، ونواب وغيرهم، تفضلوا استعيضوا بالمضمون عن الشكل، وبالفعل عن القول، وبرهنوا أنكم جادون هذه المرة..!!
10
نوفمبر 2015