ليس تجاسراً على إمكانية المقارنة، ولكننا في الوقت ذاته لا نجيز لأنفسنا الغفلة عن مراقبة ومتابعة ما يجري أو يدور حولنا من تجارب وخبرات بعض دول العالم المتقدم، نلتقطها ونتمعن فيها ونحن نعلل النفس بالاستئناس بما وصلوا، أو بلوغ ما يفيد الاقتداء به بشكل ما، بدرجة ما، أو في أحسن الأحوال لنعتبرها مجرد محاولة اطلاع على تجارب الآخرين من باب الإحاطة والعلم، لعل هذا يكفي..!!
نتحدث تحديداً في شأن تجربة التعاطي مع قيم المساءلة والمحاسبة، والاستجواب البرلماني، والحديث هنا لا يمت من قريب أو بعيد الى ما يتعلق بهذه الأداة البرلمانية في مجلسنا النيابي الذي لم يشهد من سنوات حتى الآن سوى التلويح مرة تلو المرة باستجوابات لم تجهض جميعها فحسب بفعل فاعل أو فاعلين، وإنما وجدنا النواب وليس غيرهم وهم يفرضون قيوداً على الاستجواب في صورة نكرر بأنها عبَّرت عن عبث برلماني كامل الدسم..!! لا أحد يفكر في الهرب من هذه الحقيقة..!!
نتوقف هذه المرة تحديداً عند واقعة استجواب وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة والمرشحة للرئيسة الأمريكية هيلاري كلينتون والذي جرى مؤخراً وعلناً، وذلك على خلفية تفجير السفارة الأمريكية في بنغازي بليبيا في عام 2012، إذ حملت مسؤولية عدم اتخاذها الاحتياطيات اللازمة لحماية السفارة ومنسوبيها، بجانب تهمة استخدامها بريدها الإليكتروني الخاص في العمل الرسمي إبان عملها وزيرة للخارجية.
ليس واراداً البتة أن نحكم على المذكورة لها أو عليها فذلك من حق الشعب الأمريكي، أو إقرار ما اعتبره البعض من أن ذلك الاستجواب وراءه لوبيات مصالح لتنقية سيرة كلينتون حتى تكون بلا شوائب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولكن الوارد عندنا أن نلاحظ هذا الدرس في الممارسة الفعلية في المساءلة البرلمانية التي جرت على مدى 6 ساعات وعلى فترتين، طرحت حججَ وأسانيد وهجوماً ودفاعاً بين ممثلي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لم تنفعل المستجوبة، ولم تفقد توازنها، ولم يشكك احد في وطنية أحد، ولم يعتبر أحداً أن هذا وطني صافٍ ومصفى، وذاك طائش أو خائن وعديم الولاء، ولم يعتبر احد هذا الاستجواب تعدياً على هيبة الدولة، أو نوعاً من التأزيم معها، ولم يحاول احد أن يعبّئ أو يحشّد قوى المجتمع ليقف مع أو ضد الاستجواب، أو تفسيره بشكل يحقر العقل والمنطق والناس..!! وأحسب أن هذا واحد من الدروس التي يعجز عن فهمه أو استيعابه المترددون والعاجزون ومن ينشغلون ويشغلون في قضايا هامشية، ومن يتحركون بـ «الرموت كونترول»، ومن لا يفهمون الاستجواب البرلماني إلا الشعار، والضوابط والقيود، أو يعجزون علماً أو موهبة، أو كفاءة في تحقيق استجواب حقيقي له أركانه وله تبعاته وله صداه.
هو أيضاً درس نخلص منه الى أن اسباب تقصير أي وزير أو مسؤول لا تذهب هباءً، ولا تضيع مساءلة من يتوجب مساءلته مهما ارتفع شأنه ومقامه، ومهما مرَّت السنوات، ولا يعرف عندهم مسألة «عفا الله عما سلف»، ولا هذا ولدنا، أو ذاك محسوب علينا، أو هذا موالٍ لنا، أو ذاك محصن.. من يخطئ أو يقصر أو يتجاوز أو يهمل أو يفسد يُساءل ويُحاسب ويُعاقب، وبدا أن الاستجوابات هناك لا تسخف في لعبة الاستمالات والمقايضات والمساومات، ولا تكسرها أو تميعها أو تقزمها التهديدات أو المصالح والحسابات الخاصة أو العطايا والمنافع المفتضحة أو الدسائس وكلها تفرغ الاستجواب حتى من الفراغ، ولنا في الماضي القريب دليل، بل أدلة..!!
لعله درس آخر يتوجب استيعابه مهما كان الرأي في السياسات الأمريكية الخارجية، درس يبرهن لنا أن من يمثلون الشعب هناك لا يسارعون الى خسارة ما يكسبونه، ولا يتقدمون خطوة ليتراجعوا عشراً، ولا يدقون ابواب الوزراء لينجزوا معاملة خاصة ويظهروا في صورة انهم يناقشون أمور الشعب، ويتناسون أن أمور الشعب لا تناقش في لقاءات ثنائية وفي المكاتب الخاصة، وهناك لا يصل بهم الهوس أن يقولوا أي كلام أو يستنطقوا بأي كلام في أي شأن ومجال حتى لو لم يكن مفهوماً من احد، أو مستغرباً من نائب يمثل الشعب، هناك باختصار الديمقراطية حتمية ومصير، لا تمنح كمكرمة حسب التياسير، أو تستجدى من المقامات العليا، ولا يكون لها ألف تفسير وتفسير كلها لا تنبت سوى الشعارات التي لا تؤدي الى جوهر الديمقراطية، أو تجعل الديمقراطية استحقاقاً مؤجلاً الى أجل غير معلوم.. أو تجعل الديمقراطية ضحية لنا نضطهدها وننكل بها كيفما أردنا، بل ونذهب الى فبركة وتأليف الانجازات وكله باسم الديمقراطية..!! الى الحد الذي يجعل الكيان الذي يمثل الشعب منبراً لطحن الكلام من إشادات وتبريكات بمناسبة ومن غير مناسبة، وتدفق غير محدود من التصريحات والمواقف والحماقات التي إن عبرت عن شيء فإنما تعبر بالدرجة الأولى أن النائب لا يدرك حقاً معنى أن يكون نائباً، أو انه يصر على ان يكون موظفاً حكومياً بدرجة نائب، وافهموا هذا الكلام كيفما شئتم..!!
هل يمكن أن يستخلص نوابنا العِبر من تلك التجربة، ومن تجارب أخرى عديدة يمكن التنويه والتذكير بها، وهي على وجه الإجمال تؤدي بنا الى خلاصة تدفعنا التوجه الى نوابنا بالقول: أفيقوا يرحمكم الله..!!
3
نوفمبر 2015