يقول ريجيس دوبريه إنه اكتشف فرنسيته يوم كان يعيش في بوليفيا، علماً بأنه ذهب إلى هناك ليشارك ثوارها الكفاح ضد الحكم العسكري المدعوم من الغرب. أي أنه ذهب لتجاوز فرنسيته أو تخطيها، بالانخراط في ما كان على يقين من أنه عالمي أو أممي.
«حين يكون واحدنا بعيداً عن وطنه يكتشف ماذا يعني أن يكون له وطن»، تلك هي الخلاصة التي صاغها دوبريه في وقتٍ لاحق، مؤكداً: «إن كل ما هو عالمي خادع، فالناس محليون أولاً».
هذه خُلاصةٌ حَريةٌ بالمعاينة والفحص، خاصة أن ريجيس دوبريه هو واحدٌ من أوائل الذين لاحظوا أن العالمَ يزداد تشرذماً بازدياد وتائر توحيده.
هذا التوحيد هو توحيد مصطنع، كما لاحظ جان زيغلر الذي حاور دوبريه في مقابلةٍ إذاعية، لأن قوامه الصورة والأقمار الصناعية وشركات الاتصالات والمواصلات، فكلما تعمقَ تدويل الاقتصاد وازدادت وتائره، انتعشت آليات الدفاع الرمزية لدى الأمم الأخرى وازدادت نشاطاً.
وهذه الآليات تنضوي تحت العنوان الكبير الذي نُسميه: «الهوية»، في حالة ارتدادٍ إلى الذات أو تمسكٍ بالجذور. يحدث ذلك لأن هذا التدويل يرمي لتسييد أو إعلاء نمطٍ من الثقافة.
هذا التدويل، برأي دوبريه، هو مزحة خشنة، تنتج عنها حالات «البلقنة» الواسعة التي نشهدها في أكثر من بقعةٍ في العالم، التي ليس من الضروري أن ترتدي لبوساً دموياً على النحو الذي جرى في البلقان، وعلى النحو الذي نشهده عندنا في خريفنا العربي، وإنما يمكن أن يتخذ أشكالاً أخرى قد تُفضي لاحقاً إلى نزاعات يصعب تسويتها.
ريجيس دوبريه لم يعد ذلك الثائر، رفيق تشي جيفارا الذي ترك بلده فرنسا وذهب إلى أمريكا اللاتينية مشاركاً في حرب العصابات التي خِيضتْ هناك ذات مدة في السبعينات الماضية، فهو اليوم أميل إلى القناعة بأن آليات النمو الرأسمالية واقتصاد السوق هي من الكفاءة بحيث لا سبيل لمواجهتها.
لكن الحس الأخلاقي، المثالي، إن صح القول، في تكوينه كمثقفٍ وباحث يَحملهُ على العمل في سبيل ألا يكتسح مبدأ «كل شيء مطروح في السوق» كافة قطاعات النشاط البشري.
وهو إذ يعي أن هذا الكوكب في سبيله إلى التحول، أو أنه يتحول فعلاً، إلى «سوبر ماركت» كبير، فإنه يطالب بأن تكون هناك جزر صغيرة كالدولة والثقافة والتعليم خارج قانون العرض والطلب.
حرر في: 29/10/2015