في الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، أعطى الكونغرس الأمريكي للرئيس باراك أوباما شيكاً على بياض بتأييد قراره الذي قضى بتمديد بقاء آلاف الجنود الأمريكيين في أفغانستان حتى انتهاء ولايته نهاية العام القادم وطوال العام الذي يليه. فكان أن أغضب ذلك «باربارا جين لي» عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي ممثلة إحدى الدوائر الانتخابية في ولاية كاليفورنيا، عكسته في مقال لها نشرته في صحيفة «الغارديان» البريطانية يوم الحادي والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقالت فيه: إن «أطول الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة، تواصل دق طبولها من دون أفق بائن لقرب نهايتها، وإنه وبعد أربعة عشر عاماً على غزو أفغانستان، فإن خيرة أبنائنا من الرجال والنساء سوف يواصلون التخندق ببزاتهم العسكرية في ذاك البلد الآسيوي النائي لسنتين إضافيتين ولربما أكثر».
جدير بالذكر أن هذه المرأة السمراء، كانت العضو الوحيد في مجلس النواب الأمريكي (عدد أعضائه 435 عضواً) الذي صوت ضد التفويض الذي منح للرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش لشن الحرب على أفغانستان. فيما صوت جميع الأعضاء الباقين، بعقلية القطيع، لصالح شن الحرب. وتشرح «باربارا لي» سبب اعتراضها آنذاك على التفويض بالقول إنها صوتت ضد قرار «التفويض لاستخدام القوة»، لأنه صيغ بطريقة عمومية تخول أي رئيس لشن حرب بلا نهاية في أي مكان في العالم وفي أي وقت من دون الرجوع للكونغرس.
وهي اليوم ما زالت عند موقفها تطالب بإعادة القوات الأمريكية من أفغانستان إلى ديارها. وبحسب «باربارا لي»، «فإن كلفة هذه الحرب على الولايات المتحدة، لم تعد محتملة. حيث فقدت العائلات الأمريكية 2350 من أبنائها من الرجال والنساء الذين قضوا في المعارك هناك، إضافة إلى أكثر من 20 ألفاً من الجرحى والآلاف الذين ما زالت آثار الجروح والندوب الغائرة بادية على أجسادهم، كما أزهقت فيها أرواح آلاف الأفغان وآلاف الجنود الذين يخوضون الحرب معنا في التحالف الذي يقوده «الناتو». وإن إصرارنا على مواصلة هذه الحرب، لم يجعل الولايات المتحدة أكثر أماناً، بل على العكس، فتمادينا في ورطتها يفاقم العداء ضدنا في مختلف أنحاء العالم، ناهيك عن استمرار نزفها المالي الذي كلف حتى الآن 715 مليار دولار كان يفترض إنفاقها على أولويات إنمائية وطنية ملحة».
واللافت أن الشعب الأمريكي صار يطالب بسرعة سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وهو اتجاه بدأت تعكسه نتائج استطلاعات الرأي العام منذ عام 2010، آخرها في ديسمبر/كانون الأول الماضي أجرته «واشنطن بوست» مع «أيه بي سي نيوز»، وكشفت نتائجه عن تأييد 56% من الأمريكيين لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان لأن الحرب هناك لم تستأهل خوضها منذ البداية. ومع ذلك وعلى الرغم من رفض الغالبية العظمى من الأمريكيين لهذه الحرب ومطالبتهم بالانسحاب من أفغانستان فإن البيت الأبيض والبنتاغون ما زالا يصران على مواصلتها إلى ما لا نهاية، من حيث تجديد مرابطة القوات هناك كلما اقترب موعد جلائها. بل إنه منذ تلك الصياغة المطاطة «التفويض لاستخدام القوة» في عام 2001، والتي آذنت بخوض الولايات المتحدة لأطول حروبها في التاريخ، فإن الإدارات الرئاسية الأمريكية صارت أكثر خفة وجرأة للتدخل وشن العمليات الحربية في أنحاء مختلفة من العالم، استنادا لهذا التفويض المطاط، من دون الرجوع للكونغرس.
ووفقاً لتقرير أعدته إدارة «خدمات الكونغرس البحثية»، فقد تم استخدام عبارة «التفويض لاستخدام القوة» 30 مرة لتبرير القيام بأعمال حربية، ونشر قوات خارج الحدود، وتوجيه ضربات باستخدام طائرات درون (من دون طيار)، والإبقاء المفتوح للسجناء في غوانتانامو. وهذا يشمل فقط الأعمال غير السرية، فهناك، بحسب بعض دوائر الكونغرس، عمليات سرية تم إبقاء الكونغرس في الظلام بشأنها.
وبعد أربعة عشر عاماً على التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان، ما زالت عضو الكونغرس باربارا لي تحاول تصويب الخطأ الفادح الذي ارتكبه الكونغرس. فتقدمت في الرابع من مارس/آذار الماضي بمشروع قانون حمل رقم H.R. 1303 إلى لجنة الشؤون الخارجية ينص على إبطال مفعول «التفويض لاستخدام القوة» الصادر من الكونغرس في 18 سبتمبر/أيلول عام 2001، وجاء في متنه «إذ يجد الكونغرس أن هذا التفويض المفتوح قد استخدم لتبرير القيام بأعمال حربية، وهو ما يتناقض مع صلاحيات الكونغرس التي تخوله لإعلان الحرب وإصدار القوانين لاستخدام القوة استناداً إلى دستور الولايات المتحدة…».
وبحسب النائبة الديمقراطية، فإنه منذ صدور ذلكم التفويض المفتوح، أخذت أعداد أعضاء الكونغرس الذين تفطنوا فيما بعد لخطأ «إصدارهم شيكاً على بياض» للسلطة التنفيذية للذهاب للحرب ساعة تشاء، تتزايد. ولكنها في الحقيقة لم تحصل على تزكية ودعم سوى نائبين اثنين فقط لمشروع قانونها، هما النائبان الديمقراطيان والتر بيمان جونز ومايكل ماكوتو هوندا. وحتى اللغة التي صاغت بها النائبة باربارا لي مشروع قرارها، لا توحي بالثقة إطلاقاً، وإنما على العكس من ذلك، فالانطباع الذي تعطيه لقارئها أنها كمن «يؤذن في خرابة» بعد أن «طارت الطيور بأرزاقها»، كما يقول المثلان الشعبيان الشائعان!
لو كان الأمر يتعلق باحترام الدستور كمرجعية، خصوصاً في القرارات المصيرية بالنسبة للأمة الأمريكية، ولو كان الأمر يتعلق بسيادة القانون واحترام مبادئ وثيقة الاستقلال الأمريكية عن بريطانيا التي صاغها ممثلو 13 ولاية أمريكية في 4 يوليو/تموز 1776، والالتزام بها – لما صيغ، أصلاً، قانون التفويض باستخدام القوة بطريقة ملتبسة وفضفاضة بصورة متعمدة ومقصودة، وبشراكة من السلطتين التنفيذية والتشريعية (باستثناء صوت النائبة باربارا لي اليتيم). أولم يتعهد الرئيس أوباما بإغلاق سجن غوانتانامو؟.. لما كان ذلك فإن ما ينطبق على ذلكم التعهد ينطبق على تعهده بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان ومن العراق أيضا. فهو مدد بقاءها في الأولى لما بعد انتهاء ولايته نهاية العام القادم، وفي الثانية أعاد إرسالها تحت نفس العنوان الذي استخدمه سلفه بوش وهو محاربة الإرهاب، مع فارق أن أوباما «خصخصه» بمحاربة «داعش».
ولطالما رددت الولايات المتحدة أن بمقدورها الدخول في أكثر من حرب في وقت متزامن والانتصار فيها، ولكن ليس بمفردها بطبيعة الحال، وإلا لما استطاعت تحمل أكلافها البشرية والمالية!
حرر في 6/11/2015