بعدما تزاحموا، حد الاحتكاك، على الأرض، ها هي الأجواء العراقية والسورية تزدحم بهم. ولم يعد صراع الكبار على المنطقة، مقتصراً على الاشتباك الدبلوماسي والإعلامي شبه اليومي، إظهاراً لتصميمهم على تمسك كل منهم بالخطوط الجديدة للمصالح التي رسموها في حمأة الفوضى التي أشاعوها في المنطقة منذ العام 2011.
اليوم، وبعد أن كانت واشنطن تنفرد بحيازة امتياز تواجدها العسكري على الأرض وفي الأجواء العراقية، وتنفرد تقريباً بالأجواء السورية منذ أكثر من عام (حين بدأت طلعات الاستطلاع الأمريكية في شهر أغسطس/آب من العام الماضي) للإغارة على مواقع تنظيم «داعش» في المدن والمناطق السورية التي يحتلها، دخل اعتباراً من أواخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي لاعب جديد انضم لمزاحمة الأمريكيين في الأجواء السورية، إنه سلاح الجو الروسي الذي اقتحم المشهد العسكري السوري بقوة أزعجت وأغضبت الأمريكيين. ففي بداية الأمر كان الروس يمارسون نفوذهم ويخوضون الصراع في سوريا بواسطة الدعم غير المباشر للنظام السوري، أما الآن فإنهم القوا بكل ثقلهم من أجل تعويم النظام السوري وإطلاق تسوية سياسية للأزمة السورية، على ما هو ظاهر على الأقل من تصريحات كبار مسؤوليهم.
وهكذا أصبح القطبان الكبيران يتواجدان وجهاً لوجه على الساحة السورية بأهداف متضادة حد التصادم. ففي حين تسعى واشنطن منذ فبراير/شباط 2011 لإطاحة النظام السوري الذي يقوده بشار الأسد، فإن موسكو تعمل منذ ذلك الحين على عدم تمكين واشنطن من تحقيق هدفها. واللافت أن روسيا دخلت على خط المواجهة تحت العنوان نفسه الذي ساقته واشنطن لبدء طلعاتها وغاراتها داخل الأراضي السورية، وهو محاربة «داعش». ولكن سرعان ما تبين افتراق القطبين في استهدافاتهما. ففي حين تقتصر غارات الأمريكيين على مواقع منتخبة لتنظيم «داعش»، فإن الروس وسعوا مروحة استهدافاتهم لتشمل، إضافة إلى «داعش»، ميليشيا فرع تنظيم القاعدة في سوريا الموسوم بجبهة النصرة، وكل التنظيمات الإسلامية المسلحة التي تقاتل النظام السوري. فكان أن احتجت الولايات المتحدة على ذلك وطالبت موسكو بوقف غاراتها، واعتبر رئيسها باراك أوباما أن موسكو ستمنى بالفشل في سوريا، غامزاً من قناة تصعيد الدعم العسكري الأمريكي للجماعات السورية المسلحة بهدف إفشال الغارات الروسية.
ولكن الذي حدث أن قطبي الصراع اضطرا، على ما يبدو، لعقد جولات تفاوضية من أجل التوصل إلى بروتوكول لتنسيق طلعاتهما الجوية في الأجواء السورية لتفادي الاصطدام، وهو ما تم التوصل إليه بالفعل بعد ثلاث جولات من المباحثات. مع أن كثافة طلعات الطيران الحربي الروسي في الأجواء السورية، تجعل من الصعب على الطيران الأمريكي أو الطيران «الإسرائيلي» الذي دأب على الإغارة على مواقع الجيش السوري من آن لآخر، التحليق بحرية في الأجواء السورية من دون الاصطدام العرضي بالمقاتلات الروسية. هو اتفاق محض تقني، كما يقول الطرفان، ولكن ليس من دون مدلول سياسي يتعلق بأفق التسوية المرتقبة بينهما بشأن الملف السوري، إنما في إطار صراع النفوذ المتجدد بينهما في الشرق الأوسط. فالقطبان يريدان على نحو بائن تجنب المواجهة بينهما، ولذلك فقد تفاهما على شطب أي احتمال لحدوث تصادم «عرضي» بين طيّاريهما في الأجواء السورية، واضعين المنافسة بينهما في الإطار المقبول لمصالحهما وتوفيقها لاحقاً.
ولربما تكون هذه أول حالة فريدة يسجلها تاريخ الحروب، من حيث تواجد طيران حربي في أجواء بلد ثالث لقطبين متضادين ومتصارعين على الظفر به كمنطقة نفوذ مغلقة للفائز به. وهي مفارقة لها أكثر من دلالة استراتيجية كونية، ربما تكون إحداها إعادة تشكيل، جزئية أو كلية، للخريطة الجيوسياسية للمنطقة.
وما دمنا في إطار الفرضيات غير المؤسسة على بيانات ومعلومات رصينة، يصبح من نافلة القول، والحال هذه، وربما تأكيداً لذلك، أن المنافسة بينهما لا تقتصر على سوريا، وإنما بدأت تمتد إلى العراق. صحيح أن الولايات المتحدة قد سبقت روسيا إلى العراق تحت يافطة محاربة “داعش”، ولكن روسيا تعتبر أن الولايات المتحدة قد استحوذت على إحدى أكثر الدول العربية صداقة وشراكة مع روسيا بعلاقات تمتد أربعة عقود ونصف العقد (منذ قيام النظام الجمهوري في العراق في عام 1958 حتى الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله في عام 2003 . ولذلك ما إن شاهدت حكومة بغداد نتائج «العمل» الروسي في سوريا حتى أرسلت إشارات إلى روسيا تطلب فيها المساعدة نفسها التي حصلت عليها سوريا، بإعراب رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في أول أكتوبر/تشرين الأول الجاري أنه يرحب بالتعاون مع أي جهة تساعد على الحرب ضد تنظيم «داعش» في بلاده. فسارعت موسكو لتلقف هذا الطلب والرد الإيجابي عليه، ما أغضب واشنطن التي كانت أعربت عن استيائها لبغداد من استضافتها مركز معلومات استخباراتي عراقي- سوري- روسي- إيراني مشترك. وكي تقطع الطريق على الروس قامت واشنطن بإعادة استعراض جهدها العسكري في محاربة «داعش» في العراق وأرسلت على وجه السرعة يوم الثلاثاء 20 أكتوبر رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية الجنرال جوزيف دنفورد إلى بغداد، الذي أعلن من هناك أن بلاده “تستبعد فرص أي حملة جوية روسية في الأراضي العراقية في المستقبل القريب”.
فارتفعت حرارة الصراع والتنافس بين القطبين. الولايات المتحدة، وبعد تقاعس أضجر الحكومة العراقية، أصبحت فجأة في سباق مع الوقت لتمكين القوات العراقية التي دربتها من تحرير مدينة الأنبار هي بنفسها من دون مشاركة سلاح الجو الروسي ولا الحشد الشعبي الذي تدعمه إيران. بالمقابل فإن إيران ومن خلال الحشد الشعبي ودعم سلاح الجو الروسي، تريد أن تنتزع الأضواء كمحرر لكافة المناطق العراقية بعد تحرير مدينة صلاح الدين بمشاركة الحشد الشعبي.
في سوريا أيضاً، يتكرر السيناريو نفسه، فبعد أن دخل الروس على خط «الأجواء» السورية واختطفوها من الأمريكيين الذين كانوا يجوبونها بدعوى محاربة «داعش»، لم يجد الأمريكيون من يتكئون عليه بعد تبخر القوات التي دربوها وخصصوا لها 500 مليون دولار، لم يبقَ منها موالياً سوى خمسة، بشهادة أحد كبار مسؤوليهم العسكريين أمام إحدى لجان الكونغرس – لم يجدوا سوى وحدات الشعب الكردي للسيطرة على بعض المناطق لتقوية موقفهم التفاوضي قبل أن ينجح الروس في تمكين الجيش السوري من دحر الميليشيات التي عول عليها لإطاحة النظام السوري، وإعادة بسط سيطرته على الأراضي السورية. ولكن التنافس شمل حتى هذه «التفريعة» في الكعكة السورية، حيث سمح الروس لأكراد سوريا بفتح ممثلية لهم في موسكو.
الأحداث تجري تباعاً وسريعاً، وهي تؤذن، على ما هو ظاهر على الأقل، بقرب تسوية وإغلاق الفصل السوري من “الربيع العربي”.
حرر في: 30/10/2015