هي مرحلة تأفل، تودع رموزها واحداً تلو الآخر، لكن إرثهم لا يغيب، ولن يغيب. جمال الغيطاني آخر هؤلاء، الذي غطَّ في غيبوبة دامت أشهراً قبل رحيله، لتحيا روحه في الكتب التي تركها لنا علامة على ذلك الزمن، الذي كان للحياة وللكفاح ضد الهزيمة والانكسار مضامين أخرى، مختلفة، عن مناخ الردة العربية الراهن.
متشائماً ترك الدنيا خلفه، لم تعد السماء هي نفسها، ولا الوجوه، وكأن هذا الشعور القاسي بالخيبة وراء اختياره الرحيل مسرعاً، فيما كان بوسعه أن يبدع أكثر، ويقاوم بعزيمة أشد، ولكن ما لم يقوِ عليه جسد الغيطاني في أشهره الأخيرة، سيقوى عليه الأدب الذي خلفه، والشخوص التي صنعها علامات على رفض الهزيمة، وإصرار على المضي إلى الأمام، حتى لو كانت دون ذلك عقبات وبرازخ.
في مناخ مصر التقدمي في الخمسينات والستينات نضجت شخصية الغيطاني، ليغدو واحداً من مقاومي الطغيان والاستبداد لا في الأدب وحده، وإنما في الحياة أيضاً، وطوال حياته الأدبية لم يكتف الغيطاني بكونه مبدعاً، روائياً وقاصاً وكاتب سيرة، وغائصاً في بحور كتب التراث، وإنما أيضاً شغيل ثقافة، كما تجلى ذلك في إدارته ل «أخبار الأدب»، التي هي، عن حق، من أفضل الصحف الثقافية الأسبوعية في مصر وفي العالم العربي.
كان الغيطاني الأقرب بين أدباء مصر من أبناء جيله إلى العملاق نجيب محفوظ، هو الذي دون ما دار في مجالسه، وحاوره غير مرة حوارات معمقة، مطولة، وحين أوشك، ذات مرة، أن ينهي حواراً ممتعاً مع محفوظ نشره في أحد أعداد «أخبار الأدب»، فاجأه محفوظ بالقول: «لكن لم تسألني عن أحوالي الآن عندما أكون بمفردي في النهار»، وأضاف: «أصلي عاوز أقولك أنا بقضي وقتي إزاي.. عارف أنا باعمل إيه؟».
ثم أنه شرح ماذا يعمل: «أستعيد الأغاني التي أحفظها من أيام سيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم». وقال إنه يحب جداً أغنية عبدالوهاب: «من قد إيه كنا هنا.. من شهر فات ولا سنة».
الرجل الذي حذر من الخوف، هو القائل: «لا داعي للكتابة في حال خفنا»، كان يدرك «أن لكل شيء نواة، منها يبدأ الحضور، وإليها ينتهي الغياب»، وأن ما نرغبه، أو نرغبه، على حدٍ سواء، يحل حيث لا نتوقع. لذا باغته الزمن قبل أن يسأل سؤال نجيب محفوظ. لقد أسرع في المضي.
حرر في : 21/10/2015