ليس تعدد الثقافات في المجتمعات ظاهرة خاصة بالمجتمعات النامية، بما فيها بلداننا العربية الإسلامية، التي باتت اليوم ساحة صراع، دموي في الكثير من الحالات، بين ممثلي هذه الثقافات، فالعديد من البلدان الأوروبية، لا بل والولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، هي ذات مجتمعات متعددة الثقافات والتحدرات الإثنية والدينية، وحتى هذه الدول «المتقدمة» شهدت حروباً على خلفيات دينية وثقافية، وما زالت تشهد أوجه توتر خفي بين التكوينات الثقافية والعرقية فيها.
وفي تشخيصه للثقافات الفرعية لاحظ مؤلف «التحليل السياسي الحديث» روبرت دال حقيقة أن نيوزيلندا والسويد والنرويج وأيسلندا، على سبيل المثال، تتمتع بتجانس ثقافي شبه تام يفسر المستويات المنخفضة للصراع فيها، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الثقافات الفرعية التي لا حصر لها في الهند، مثلاً، تفسر ارتفاع مستوى التجاذب بين هذه الثقافات داخلها.
وبالقياس لما يجري اليوم في العالمين الإسلامي والعربي يبدو مثال الهند هنا غير موفق، فرغم كثرة الثقافات الفرعية فيها وحالات التجاذب الناجمة عن ذلك تبدو الهند حالاً متقدمة في احتواء أو استيعاب هذا التجاذب، والسبب في ذلك عائد في تقديرنا إلى استقرار الممارسة الديمقراطية في هذا البلد مهما شابها من عيوب، وهو الأمر غير المتوفر في عالمنا العربي.
شيء قريب من هذا القول نستشفه من المقارنة التي يعقدها الرجل بين حالي بلجيكا وسويسرا، فإذا كان مستوى التجاذب أو الصراع بين الثقافات الفرعية في الأولى أكثر حدةً، فإن انخفاضه في الثانية عائد إلى نجاح سويسرا، رغم وجود أربع مجموعات لغوية فيها وديانتين وولاءات إقليمية قوية، في تجنب أي تمييز خطر بين الثقافات الفرعية فيها.
ولا يمكن تجاهل النموذج الأمريكي في هذا المجال. الولايات المتحدة الأمريكية نجحت نسبياً فقط في تجنب الصراعات بين شعب يتسم بكل هذا التنوع، لكن لا يمكن غض الطرف عن التمييز ضد الأمريكيين من أصل إفريقي، حتى بعد تصفية نظام العبودية، وميراث هذا التمييز كان سبباً مباشراً للتوترات الداخلية حول حقوق الأمريكيين الأفارقة.
وتبدو مفردة التمييز تحديداً، هي المدخل الصحيح لمقاربة هذه المسألة، فحين تنجح المجتمعات في التغلب على هذا التمييز، بصوره كافة، بين مواطنيها، وتؤمّن الحقوق المتكافئة للجميع، فإنها تنجح أيضاً في خفض مستوى التوترات، الحادة أو الخفية، إلى أدنى مستوى، ويحدث العكس تماماً، حد بلوغ الانفجارات الدامية، حين تخفق في ذلك.
حرر في: 13/10/2015