المنشور

مبارزة الحيتان في الجمعية العامة



عديدة
هي التقسيمات التي أنشأها «الكبار» على الخريطة الجغرافية والاقتصادية
والسياسية والاجتماعية العالمية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام
1945. من إنشاء تقسيمات نفوذ جغرافية عالمية جديدة، إلى تقاسم كعكة
المنظمات الدولية التي أنشأوها لتسيير أعمال الكون، إلى اعتماد معايير
جديدة لتقسيم العالم إلى عوالم مختلفة المكانة والامتيازات والأولوية
والأهلية، يأتي في مقدمها التقسيم الأشهر: العالم الأول والعالم الثاني
والعالم الثالث. 
كبرى المنظمات الدولية، أو المنظمة الأم كما يسمونها، وهي هنا منظمة
الأمم المتحدة، قسموها إلى تنظيمين رئيسيين، الأول أسموه مجلس الأمن الدولي
الذي خص فيه الكبار الأربعة (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد
السوفييتي (روسيا حالياً) وبريطانيا وفرنسا) أنفسهم بعضويته الدائمة، قبل
أن يتكرموا بإضافة الصين إليهم كعضو خامس في عام 1972 بعد قبول جمهورية
الصين الشعبية عضواً في الأمم المتحدة بدلاً من الصين الوطنية (تايوان).
وقد أعطى هؤلاء الكبار الخمسة من بين سائر الدول كاملة العضوية في الأمم
المتحدة البالغ عددها 193 دولة (إضافة إلى دولتين بصفة مراقب هما فلسطين
والفاتيكان)، أعطوا لأنفسهم حقاً حصرياً في الاعتراض الفردي على أي قرار
يصدره المجلس وإبطاله إذا لم يرق لهم. أما التنظيم الرئيسي الثاني فأسموه
الجمعية العامة التي تضم جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتنعقد مرة
واحدة في السنة في دورة عادية مكثفة تمتد من سبتمبر/أيلول حتى ديسمبر/كانون
الأول، وتتخذ قراراتها، التي لا تعدو أن تكون توصيات، في القضايا المتعلقة
بالسلم والأمن الدوليين وانتخاب أعضاء مجلس الأمن بأغلبية ثلثي الدول
الأعضاء، أما في المسائل الأخرى الثانوية فتتقرر بأغلبية بسيطة. ولكل دولة
صوت واحد وخمسة ممثلين. وبينما يقع المقر الرئيسي للأمم المتحدة في
الولايات المتحدة (مدينة نيويورك)، فإن له مكاتب فرعية في بلدان أوروبا
الغربية الحليفة لواشنطن (جنيف في سويسرا، لاهاي في هولندا، فيينا في
النمسا)، إضافة إلى مكتب يتيم واحد في العاصمة الكينية نيروبي تم افتتاحه
في عهد الرئيس الكيني دانيال اراب موي الذي استمر في السلطة لمدة 24 عاماً
(من عام 1978 إلى 2002) لتقديم الدعم الإداري والبرامجي لاثنتين من منظمات
الأمم المتحدة المتخصصة هما برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، وبرنامج
الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-HABITAT). 
وهذا ينسحب على كافة
المنظمات الدولية التي تعتبر بمثابة الجهاز التنفيذي لمجلس إدارة العلاقات
والشؤون الدولية، وهو هنا العواصم المفتاحية لصناعة القرار الدولي. فرئيس
صندوق النقد الدولي أوروبي غربي، ورئيس البنك الدولي أمريكي، وهكذا دواليك.
كذلك الحال بالنسبة لمعظم المقار الرئيسية لهذه المنظمات.
وحتى بعد
مرور أكثر من 6 عقود على نيل بلدان «العالم الثالث» استقلالاتها الوطنية،
ما زالت عواصم «العالم الأول» تتعاطى معها بذات المقاييس التي يفترض أن
يكون قد طواها الزمن، وذلك لعدم حدوث إعادة تموضع جوهرية للظروف الموضوعية
التي أنشأت هذه التقسيمات، وذلك برسم استمرار اقتران «المساعدات والتبرعات
والمنح والهبات وتخصيص حصص سنوية لاستقبال «المحظوظين» من مهاجريها –
ب«العالم الثالث». 
وما الجمعية العامة للأمم المتحدة سوى أحد رموز تلك
العلاقة غير المتكافئة بين بلدان «العالم الأول» وبلدان «العالم الثالث».
وكان الأجدر أن تسمى الجمعية العامة لبلدان الجنوب أو لبلدان «العالم
الثالث». فهي لا تعدو أن تكون منبراً للمناحة تتقاطر عليه مرة كل عام
الوفود الرسمية لهذه البلدان لترفع شكاواها ومعاناتها جراء استمرار النظام
السياسي والاقتصادي العالمي غير المتكافئ الذي فصّله «الكبار» على مقاساتهم
بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية. إلا أنه مع ذلك، ورغم أن هذا المنبر هو
من «الحصة الفقيرة» للدول النامية، بحسب التقسيمة إيّاها، فإن الدول
الكبرى صاحبة نظام الامتيازات في النظام الدولي، لا تتوانى في أن تشاركها
إيّاه وإحالته الى «هايد بارك» عالمي، تتسابق (الدول الكبرى) في استغلال
مناسبة انعقاده السنوية وسط حشد واسع من كبار قادة العالم، لتوصيل رسائلها
وإطلاق برامجها ومبادراتها من على منبرها. حتى الأمانة العامة للأمم
المتحدة تستغل هذه المناسبة الخطابية «لاصطياد» قادة العالم لأخذ مباركتهم
على خططها وبرامجها واستعطافهم لزيادة مساعداتهم المالية لتمويل برامج
منظماتها المتفرعة، في مقابل التماهي معهم في ما يطلبون على الصعد
الاقتصادية والأجندات الاجتماعية والسياسية والحقوقية وغيرها.
الدورة
السبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة التي افتتحت في 15 سبتمبر/أيلول
2015، خير شاهد على عدم اكتفاء «الكبار» بحصتهم العظمى من تقسيمة كعكة
النظام الدولي ومؤسساته، وهي هنا مجلس الأمن، وإنما هرعوا للتباري أمام
كبار قادة العالم على إيصال رسائلهم لبعضهم بعضاً وللآخرين المستهدفين
بسياساتهم، الجارية والأخرى قيد التنفيذ.
وكان لافتاً في هذه الدورة حرص
قطبي الصراع الكوني المتجدد في غير بقعة عالمية، روسيا والولايات المتحدة،
على تزخيم حضورهما بمشاركة زعيميهما فلاديمير بوتين وباراك أوباما في
الاجتماع، وتوجيههما خطابين حملا توجهاتهما بشأن القضايا العالمية الساخنة،
لاسيما القضية السورية ومكافحة الإرهاب. فكان أن جاء الخطابان والمؤتمرات
واللقاءات الصحفية التي عقدها الرئيسان على هامش دورة الانعقاد الحالية،
بمثابة مبارزة مفتوحة بين الطرفين حول خطوط وحدود مناطق النفوذ التي رسمها
كل منهما لنفسه في المنطقة العربية وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً. من دون
أن ننسى أن الرئيسين المتبارزين كانا التقيا قبلاً لمدة 90 دقيقة تباحثا
خلالها في القضايا الخلافية بما فيها القضية السورية. 
لقد كانت مبارزة
ساخنة استخدمت فيها تعابير حادة تعكس عمق الخلاف الناشب بين القطبين في ما
خص الملف السوري، وعدم توصلهما بعد إلى تحديد حصة النفوذ التي تريد واشنطن
الفوز بها في سوريا. إنما مجرد التقائهما بعد قطيعة امتدت عامين على خلفية
الأزمة الأوكرانية، يفتح المجال أمام لقاءات أخرى قادمة لتسوية وإغلاق بعض
ملفات الخلاف العالقة، و«إعطاء الإذن»، أو الضوء الأخضر، ترتيباً، لمحركات
الاقتصاد العالمي للدوران بالسرعة التي كان عليها قبل ارتفاع حدة الخصام
بين القطبين وحدوث القطيعة بينهما. – See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/179d8c31-16f1-4801-b097-1a3e087ce392#sthash.K007jVFd.dpuf