يأتي التوجه نحو
رفع الدعم عن بعض السلع والخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، إعمالاً لنصائح
ومشورات المؤسسات المالية العالمية، وفي مقدمتها البنك الدولي، في إطار ما بات
يعرف بالسياسات التقشفية، التي بدل أن تتوجه نحو معالجة الاختلالات الهيكلية في
إقتصادنا الوطني، تبدأ بالمساس بخدمات الرعاية والدعم التي تقدمها الدولة
للمواطنين.
وتدل تجربة
بلدان عديدة في العالم النامي أن البنك الدولي، وقرينه صندوق النقد الدولي يتجهان
عادةً إلى تقديم وصفات إقتصادية موحدة لتلك
الدول، دون مراعاة الفروق بينها، ودون حساب ردات الفعل الإجتماعية المتوقعة جراء
المساس بالحقوق المعيشية لمواطني تلك الدول، وحسب بعض المؤشرات فإن البنك الدولي
وصندوق النقد الدولي، ودون الدخول في تفاصيل تصنيفهما للدول إلى فئات، يعمدان إلى
تقديم نفس “الروشتة
، التي
ما أكثر ما نجم عن الأخذ بها هبات واحتجاجات شعبية واسعة تنال من إستقرار
المجتمعات، ومن الأمن المعيشي لأبنائها.
فعلى سبيل
المثال قدم صندوق النقد الدولي “روشتة” إقتصادية موحدة لكل من الأردن واليمن
ومصر وتونس والجزائر والمغرب تتمحور حول رفع أنواع الدعم الحكومي عن الخبز وباقي السلع
الغذائية وأسعار الطاقة، والتوجه نحو خصخصة حصص الحكومات في الشركات، وقد خطط آنذاك
للإستمرار في تناول هذه “الروشتة” لأكثر من عشرين سنة بالرغم من بعض التغييرات
البسيطة لبعض أنواع السلع المشمولة بالدعم. وكانت هذه الوصفات قد وضعت بعد أن عجزت
تلك الدول عن الوفاء بالتزاماتها تجاه الصندوق الذي إشترط بالمقابل إستعمال الدول المقترضة
نفس “الروشتة” حرفياً.
ليس البنك الدولي ونظيره صندوق النقد
الدولي سوى أداتين ماليتين ضاربتين بيد القوى المتنفذة عالمياً، غير المعنية إلا
بتعظيم أرباحها، والإستمرار في الإستحواذ على المقدرات الإقتصادية للدول النامية،
وإعادة تدويرها بما يخدم مصالح تلك الدول المتنفذة، دون مراعاة ما ينجم عن ذلك من
تبعات على مصالح الدول المقترضة، والتي يشترط عليها لقاء إقراضها، التقيد بتلك
“الروشتة”، فتكون العواقب وخيمة، من حيث حجم الإفقار الذي يطال الفئات
الوسطى، وزيادة الفقراء فقراً وعوزاً، وإعاقة خطط التنمية في البلدان النامية،
الموجهة للنهوض بأوضاعها، وتلبية إحتياجات شعوبها.
وتدل التجربة
على أن الدول التي خضعت لروشتة البنك الدولي والصندوق الدولي، لم تفلح في تسديد
مديونيتها، ولم تظفر بما كانت تطمح إليه من نتائج على صعيد التغلب على الصعوبات
التي حملتها على الإستدانة لتغطية العجوزات في موازنتها، فلا هي عالجت اختلالاتها ولا
هي سددت ديونها، بل بالعكس ما زالت تطالب بمزيد
من الديون
، وهذا ما يتهدد
بلادنا الآن، جراء الارتهان لهذه “الروشتات”.
يدخل الموقف من مسألة
رفع الدعم الحكومي عن بعض السلع الذي تمَّ البدء فيه، فيما يجري الحديث عن خطوات
وشيكة قادمة، في خانة التزامات الدولة تجاه المواطنين
، ونلمس يومياً تنامي الإستياء الشعبي من مثل هذه الخطوات، والقلق من
مفاعليها وتبعاتها على أوضاعهم، وعدم إطمئتان لل
تبريرات أو التسويغات الحكومية لهذا
التوجه، من نوع إعادة توجيه الدعم حتى لا تتحول الدولة إلى بقرة حلوب تقدم من المال
العام دعماً لمن هم ليسوا في حاجة إليه
.
لا يمكن النظر إلى مسألة رفع الدعم هذه بمعزل عن فلسفة اقتصادية رائجة،
على المستوى العالمي، تريد أن “تُحرر” الدولة من الإلتزامات الاجتماعية الملقاة
على عاتقها تجاه المجتمع، وخاصة تجاه الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل
،
وحان
الوقت لمراجعة الموقف المتطرف الذي يطالب بإقصاء الدولة عن دورها، أو في أحسن الحالات،
الحد منه إلى أبعد مدى، عندما إستشرت أطروحات فعالية اقتصاد السوق والمبادرة الفردية
والدور السحري للخصخصة
.
و
الغريب أن الحديث لا يدور عن السطوة السياسية
للدولة واختراقها للمجتمع المدني ومؤسساته، لا بل وتغييب هذه المؤسسات ومصادرة أي دور
مستقل له، إنما يتركز
الأمر
حصراً في الحقل الاقتصادي، وحول الخدمات الإجتماعية الضرورية التي تقدمها الدولة لأبنائها
في حقول الرعاية الأساسية من تعليم وتطبيب وضمان اجتماعي وإعانات مختلفة
، ل
مصادرة
مسؤولياتها كهيئة رعاية اجتماعية، في مقابل التأكيد على دورها النقيض لدور المجتمع
الذي يفترض التعددية السياسية والاجتماعية، ويصبح بموازاة الدولة ضامنا للتطور الصحي
للمجتمعات، على قاعدة تمسك الدولة بالدور المناط بها، في مجالات الخدمة الاجتماعية،
خاصة في الحقول الحيوية كتأمين سبل العيش الكريم لمواطنيها، وضمان جودة الخدمات
الاجتماعية المقدمة لهم.