المنشور

ثنائية الادخار والاستهلاك

تدفع ارتدادات الأزمة المالية العالمية لعام 2008 التي لازالت
بلدان منطقة اليورو (18 دولة من دول الاتحاد الأوروبي الـ 28)، وبلدان الاتحاد
الأوروبي عموما، تعاني من آثارها الهيكلية المالية، وهشاشة النمو الامريكي، تدفع بالجدل
الدائر على ضفتي الأطلسي، الذي يثيره السياسيون للتفتيش عن مبررات تعثر سياساتهم
الاقتصادية على صعيدها الاجتماعي، ويثيره الاقتصاديون تفتيشا عن مكمن الداء في
مأزق النماذج الاقتصادية السارية. ولا يكاد أمر هذا الجدل يستقر على اتجاه فكري
اقتصادي مرجح وانما هو يتقافز من رؤية الى رؤية أخرى سرعان ما يهرع اليها بعضهم
لجاذبيتها الأولية.
فبعد أن سيطرت فكرة عدم التوازن الاقتصادي




(Economic imbalance)





وتقويم العملات بأقل من قيمتها





(Currency
depreciation)






على الجدل الاقتصادي العالمي طوال الفترة الماضية التي تمتد الى ما قبل اندلاع
الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية في عام 2008، حيث كان الاعلام الاقتصادي المتخصص
وغير المتخصص في الولايات المتحدة وفي البلدان الاوروبية الغربية ينحو نحو القاء
تبعة تزايد عدد دورات الركود وطول أمدها في البلدان الغربية، على ما أسموه باللاتوازن
الاقتصادي بين البلدان المتقدمة والبلدان ذات الاقتصادات الصاعدة المتمثل في تمتع
البلدان الصاعدة بفوائض مالية ضخمة مقابل معاناة الدول المتقدمة من عجوزات
ومديونيات صخمة. وهو ما تعزوه الدول المتقدمة الى لجوء الدول الصاعدة الى تقييم
عملاتها بأقل من قيمتها الحقيقية.
…نقول بعد أن كان الجدل الاقتصادي متركزا لفترة على دينك
المتغيرين، فقد نشهد قريبا تحولا طفيفا ربما كبر في المستقبل، نحو تسليط الضوء، أو
بالأحرى اعادة تسليط وتركيز الضوء على متغيري الادخار والاستهلاك اللذين يحاول من
خلالهما بعض المجادلين الاقتصاديين الحاذقين، أن يفسروا أسباب تأزم الأوضاع
المالية وانسداد الدورة الاقتصادية في طورها الانتعاشي في بلدان المركز الرأسمالي
مقابل سلامة وانتظام أداء بلدان الاقتصادات الصاعدة في آسيا وأجزاء من أمريكا
اللاتينية.
وهي مقاربة ستؤول نتيجتها، كما سنرى، الى اشكالية اللاتوازن
الاقتصادي العالمي اياها، في اتصالها بأسعار الصرف المنخفضة.
يذهب أصحاب مقاربة الادخار في جانب والاستهلاك في جانب آخر،
الى أن اليابان تدخر كثيرا ولا تنفق كثيرا، كما انها تصدر أكثر مما تستورد، ومن
نتيجة ذلك أن لديها فائضا تجاريا يزيد على مائة مليار دولار، ومع ذلك يُنظر الى
الاقتصاد الياباني على انه اقتصاد ضعيف إن لم يكن عرضة للتهاوي.
في المقابل فان الولايات المتحدة الامريكية تنفق كثيرا
وتدخر قليلا، وهي تستورد أكثر مما تصدر، ما أنتج عجزا تجاريا يزيد على 400 مليار
دولار. ومع ذلك فان الاقتصاد الامريكي يؤدي بشكل أقوى من الاقتصاد الياباني ويتمتع
بثقة المستثمرين.
فكيف يتدبر الامريكيون للحصول على الأموال التي تمكنهم من
الانفاق؟.. انهم يستدينونها من اليابان والصين والهند والبرازيل وروسيا التي تٌقبل
بشراهة على شراء ما يعرضه الامريكيون من سندات خزينة مؤجلة الدفع ولكن بفائدة مغرية،
ما يعني أن الدائنين الذين هم في هذه الحالة اليابان والصين والهند والبرازيل
وروسيا وكل الدول التي تُقبل على شراء سندات الخزينة الامريكية، يقومون عمليا
بالادخار من أجل توظيف هذه المدخرات في الاقتصاد الامريكي وبالدولار الامريكي.
الهند مثلا تحتفظ بحوالي 50 مليار دولار من احتياطياتها النقدية في صورة أوراق
مالية أمريكية، كما ان الصين استثمرت حوالي 160 مليار دولار في الأوراق المالية
الامريكية، أما اليابان فأرقام استثماراتها في الأوراق المالية الأمريكية تفوق ذلك
بكثير.
والنتيجة أن الولايات المتحدة حصلت من العالم على أكثر من 5
تريليون دولار في صورة قروض مؤجلة الدفع، ما أتاح للامريكيين فرصة الانفاق المريح.
ما يعني أن الاقتصاد الامريكي صار يؤمّن دورته الانتعاشية بفضل تدفق حوالي 180
مليار دولار فصليا (كل ثلاثة شهور)، أي بمعدل 2 مليار دولار يوميا على السوق الامريكية
من الخارج.
وفي المحصلة تكون الصين واليابان والهند وغيرها قد استثمرت
في السوق الامركية أكثر مما استثمرت الولايات المتحدة في هذه البلدان (الهند على
سبيل المثال استثمرت في الولايات المتحدة 50 مليار دولار بينما استثمرت الولايات
المتحدة في الهند 20 مليارا فقط.
بهذا المعنى يصبح مفهوما لماذا يقبل العالم كله على
الاستثمار في الولايات المتحدة، فالامركيون بالكاد يوفرون، بل انهم يستخدمون
بطاقات الائتمان لمضاعفة قدرتهم الشرائية (الاستهلاكية) لانفاق مداخيلهم المتاحة





(Disposable income)





والمستقبلية أيضا، ما يعني أن السوق الامريكية تمتلك
جاذبية للمصدرين السلعيين.
ماذا يعني هذا من وجهة نظر ثنائية الادخار والاستهلاك في
اتصالها بدراسة الحالة





(Case study)





التي نحن بصددها، وهي هنا
الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الامريكي؟..انه يعني ان العالم أضحى معتمدا على مدى
قدرة الاقتصاد الامريكي على الاحتفاظ بقوة زخم طاقته الاستهلاكية. هذا بالتأكيد
وضع غير صحي بالنسبة للعلاقات الاقتصادية الدولية، وغير مستدام بالضرورة. وهو إنما
يعيد انتاج  وتفسير مقاربة اللاتوزن
الاقتصادي العالمي التي كان أصحابها يقرأون بواسطتها تفاوت الأداء الاقتصادي بين
الدول المتقدمة والدول الصاعدة.
طبعا مقاربة الادخار والاستهلاك، هي مقاربة تبسيطية للحراك
الاقتصادي واستخلاصاته في كل من بلدان الوفرة (ذات المعدلات العالية للادخار)، وبلدان
العجز المالي. فالثقافة الاستهلاكية الامريكية الشرهة التي تغري – بحسب فرضية
المقاربة – دول الفائض للاستثمار فيها، لم تستطع تأمين نمو ازدهاري خالق للشواغر
الوظيفية، كما هو حال النمو المستدام في الدول الصاعدة المستمر منذ عام 2000
بمعدلات قياسية شبه ثابتة.
ومع ذلك، وبناءً على صحة مذهب اللاتوازن الاقتصادي العالمي،
من حيث المبدأ، فانه لابد لبلدان الاقتصادات الصاعدة من “اعادة نشر”
وتوزيع مصادر نموها بين الانتاج السلعي الموجه للتصدير





(Export
oriented)





وبين
الاستهلاك الداخلي، وهو ما بدأت تعيه وتعمل به فعلا الصين والهند.