المنشور

مشردو سوريا يجتاحون أوروبا!


فجأة، وعلى حين غرة، وجدت أوروبا نفسها عرضة لاجتياح بشري مهول.. عشرات آلاف اللاجئين المشردين من ديارهم السورية يقهرون المسافات وعوائقها البرية والبحرية، ويصلون إلى عقر دار بلدان الاتحاد الأوروبي، في موجة هجرة جماعية لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية. دوهمت بلدان الاتحاد الأوروبي بهذا التحدي الديموغرافي، على الرغم من أن طلائع هذا الطوفان البشري المتدفق عليها، كانت قد بدأت «بشائره تهل» عليها منذ بضعة أشهر، وإن بموجات صغيرة من التسلل بواسطة قوارب الفرصة الأخيرة لكتابة حياة جديدة لهؤلاء البائسين الذين شردتهم الحروب في بلدانهم العربية.

في ذلك الوقت، في شهر إبريل/نيسان الماضي، استنفرت أوروبا أجهزتها التسييرية ودخلت مؤسسات الاتحاد الأوروبي في ماراثون من اللقاءات والاجتماعات على مختلف المستويات في أعقاب فقدان 800 مهاجر حياتهم، صنفتهم الأمم المتحدة في بياناتها «بالمهاجرين غير الشرعيين» يوم الأحد 19 إبريل 2015 إثر غرق سفينتهم قبالة السواحل الليبية بعد إبحارها من طرابلس الليبية، بينهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عاماً، بينهم سوريون، وصوماليون ونحو 150 إرتيرياً. ومع ذلك شتان بين تلك الموجات الصغيرة من مهاجري قوارب بؤساء المهاجرين، وهذا السيل المتدفق فجأة على بلدان القارة الأوروبية حد الإرباك واحتلال الحيز الأكبر من اهتمامات حكوماتهم وشعوبهم وانشغالهم بها.

لقد انقسمت أوروبا بين دول مرحبة باستقبال طالبي اللجوء، ودول رافضة لاستقبالهم. وحتى الدول المرحبة منقسمة الغايات هي الأخرى، بين دول لها مطامع خاصة بها وتتصل بمشكلة تآكل قوة عملها نتيجة لمعاناتها أزمة هرم سكانها (Population aging crisis)، وتمثلها هنا وبشكل صريح ألمانيا، ودول وجدت نفسها مضطرة تحت الضغوط السياسية لبلدان المركز الرأسمالي الأوروبي، وتحديداً ألمانيا، للموافقة على مقاربة مشتركة لتوزيع اللاجئين بين الدول الأعضاء ال 28 في الاتحاد الأوروبي والقبول الإذعاني بالحصة المخصصة لها من هؤلاء المهاجرين الذين تقطعت بهم السبل في بلدانهم وفي شتات المخيمات المقامة في تركيا والأردن ولبنان، وهي في معظمها بعض بلدان أوروبا الغربية. فضلاً عن وجود دول رافضة كلياً لمبدأ حصص التوزيع وبالتالي رافضة لاستقبال هؤلاء المهاجرين، ويمثل هذه الشريحة من الدول بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، مثل المجر وتشيكيا وسلوفاكيا.

وكانت فرنسا أكدت في وقت سابق وفي أكثر من مناسبة رفضها نظام الحصص الذي اقترحته المفوضية الأوروبية لحل أزمة المهاجرين. وجاء على لسان رئيسها فرانسوا هولاند خلال لقائه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن بلاده ترفض مبدأ الحصص، محبذاً طريقة أفضل لتقاسم أعداد المهاجرين بين دول الاتحاد.
وكانت لندن وبودابست عارضتا الفكرة منذ البدء، قبل أن تلتحق بهما دول البلطيق وبولندا وتشيكيا وسلوفاكيا.

وحتى ألمانيا التي رحبت في البداية بالمهاجرين وأفرطت في حماستها لاستقبالهم، لحد مهاجمة جارتها المجر على إجراءاتها القاسية التي اتبعتها ضد المهاجرين العابرين لحدودها في طريقهم إلى النمسا ومنها إلى ألمانيا، (حتى أطلق اللاجئون على المستشارة أنجيلا ميركل «ماما ميركل» إثر تصريحها بأن ألمانيا مستعدة لاستيعاب 800 ألف لاجىء هذا العام)، سرعان ما ابتلعت حماستها وتقاطعت مع المجر في تدابير إغلاق حدودها مع النمسا بوجه اللاجئين الوافدين إليها بعد الانتقادات التي وجهها عدد من الولايات الألمانية، كولاية بافاريا، إلى المستشارة الألمانية لفتحها أبواب البلاد أمام تدفق اللاجئين من دون أن تتوفر المخصصات المالية الكافية في موازنة الولايات والمدن والقرى الألمانية لاستيعابهم. وكانت الحكومة الألمانية قننت قبل ذلك عملية استقبال اللاجئين إليها من العراق، إذ حصرت حق الحصول على اللجوء في المسيحيين والأكراد الإيزيديين. وزير الداخلية الألماني توماس دو مازيير ذكر في حديث لقناة «زد. دي. إف» التلفزيونية الألمانية أن بلاده «تتوقع أن يتقدم نحو 800 ألف شخص بطلبات للجوء إليها هذا العام، أي أربعة أمثال عدد الطلبات في العام الماضي». موضحاً «بأنه وبالرغم من قدرة ألمانيا على التعامل مع هذا العدد إلا أن هناك حاجة لكثير من الأموال للتعامل مع أزمة اللاجئين لمدة ثلاث أو أربع أو خمس أو ست سنوات، و800 ألف عدد كبير للغاية حتى بالنسبة لبلد مثل ألمانيا».

والسؤال لماذا اختار طالبو اللجوء ألمانيا من بين سائر البلدان الأوروبية التي غامروا للوصول إلى شواطئها وحدودها البرية؟ والجواب هو حصول طالب اللجوء في ألمانيا على منحة شهرية تتراوح ما بين 350 و400 يورو، كما يحصل على فرص الإقامة المجانية طيلة فترة النظر في طلب لجوئه. إضافة إلى تمتع اللاجئ في ألمانيا بفرص التعليم والصحة والحصول على وظيفة أكثر من تلك التي يمكن أن توفرها سائر اقتصادات القارة الأوروبية التي تعاني تباطؤاً ثقيلاً منذ الأزمة المالية في عام 2008. واللافت في طوفان اللجوء الأخير الذي أقضّ مضاجع الأوروبيين، أن أغلبية أفراده هم من السوريين النازحين من بلدهم إلى مخيمات اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان التي فر إليها نحو أربعة ملايين سوري هرباً من ويلات الحرب الأهلية الطاحنة في بلدهم. وهؤلاء يدركون أن لا أمل لهم في بلدهم حتى السنوات العشر أو العشرين القادمة. وهم لذلك قرروا المخاطرة بحياتهم أملاً في تأسيس حياة جديدة لهم في بلدان المهجر الأوروبي.

بالنسبة لألمانيا، ولطبقتها السياسية المتداولة الحكم فيما بينها، فإنها أخذت بمبدأ حساب العائد والتكاليف المعمول به في دراسات جدوى المشاريع. فهي، أي ألمانيا تعاني مشكلة الشيخوخة السكانية الناتجة عن الفجوة القائمة منذ ثمانينات القرن الماضي في عملية الإحلال الطبيعي بين المواليد والأموات بسبب تراجع معدل الخصوبة. ووجدت في هؤلاء اللاجئين، وتحديداً السوريين منهم وجلهم من صغار السن والشباب اليافع، ضالتها في ملء بعض فراغ تلك الفجوة، وهي العالمة بأنهم كانوا يتمتعون في بلاهم بنظام تعليمي جيد جداً، وانهم يتميزون بالحيوية وروح الابتكار والمخاطرة. ما يجعل الاستثمار الآني فيهم عالي الجدوى ومصدراً تعزيزياً للجباية الضريبية للخزانة الألمانية خلال عقدين من الزمن، هي فترة استرداد تكلفة الاستثمار في توطينهم.

وهكذا، فإن ما اعتقده الكثيرون للوهلة الأولى إرادة ألمانية حرة نابعة من القيم الأوروبية المسوقة في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، واختياراً ألمانياً نزيهاً، خالياً من أية حسابات براغماتية، لم يكن في حقيقة الأمر سوى اندفاعة طائشة حركتها حسابات العائد والتكاليف، سرعان ما أعادتها الهواجس، البراغماتية أيضاً، إلى مستقرها كناظم حاكم لموقف العقلية الألمانية المركنتيلي (مذهب تجاري صرف) في نهاية الأمر.
 
 
حرر في: 25/09/2015