في كتابه: «رأيت رام الله» أحصى مريد البرغوثي عدد البيوت التي عاش فيها، فبلغ رقماً كبيراً تجاوز العشرين.
في الأمر ما هو فلسطيني جداً، فرحلة الشتات الطويلة جعلت الفلسطيني يتنقل بين بلد وآخر ومدينة وأخرى ومنفى وآخر، وبالنتيجة بين بيت وآخر.
لكن في الأمر ما هو عام أيضاً يخص الناس جميعاً أو يخص الكثير من الناس، حين يجد المرء نفسه يتنقل عبر حياته في أكثر من بيت.
ولو أن الناس جلست لتروي سيرة هذه البيوت لكانت قد أحاطت بتفاصيل كثيرة، عديدة، حميمة في حياتها، تؤرخ لأدق الأمور وأكثرها قرباً للنفس.
أمر كهذا فعله هرمان هيسه وهو يكتب بعض سيرته الذاتية في «أيام من حياتي»، لكن ما كتبه هيسه ليس أكثر من «سكتش» أولي لرواية أو ربما لروايات، فالانتقال إلى منزل جديد لا يعني فقط بدء شيء جديد، كما يذهب هو إلى ذلك محقاً، وإنما ترك شيء قديم.
بل لعل ما يفعله الواحد منا إذ ينتقل إلى بيت جديد ليس تغنياً أو مديحاً له، وإنما استحضار للبيوت القديمة، أو للبيت الأخير الذي انتقل منه: «كيف للإنسان أن ينشئ الكلمات ويغني الأغنيات لخطوة لما تبدأ بعد، وكيف للإنسان أن يحتفي بالنهار قبل أن يحل المساء؟». الحق أن جل ما نفعله لحظة الانتقال للبيت الجديد هو التمنيات بأن يكون «بيتاً عامراً»، أو بتعبير هيسه: «غنعاش الآمال في القلوب»، وحث الأصدقاء على أن يتمنوا من قلوبهم حياة سعيدة للمنزل وأهله.
قال هيسه أيضا إنه يحتاج إلى سنة ويوم على الأقل للحديث عن المنزل، وعلاقته به ومشاعره نحوه، وإن بدا تعبيره هذا أقرب إلى الطرفة، لكنه يلامس فكرة جوهرية هي أننا لا نستطيع أن نصف الشيء في لحظته، وإنما بعد أن تفصلنا عنه مسافة كافية، سنة ويوم على الأقل بتعبير صاحبنا، لأننا لحظة الحدث نكتفي بأن نعيشه، وربما يكون الحدث نفسه مربكاً لنا فلا يعود بوسعنا الكلام بعده، إلا بعد حين.
حياة الواحد منا توزعت وتتوزع على بيوت عدة، ربما كان حرياً بنا أن ننطلق ونحن نستعيد كيف مرت هذه الحياة، من رواية سيرة هذه البيوت، وسيرة ما أحاط بها من أحداث، كوننا نحن كذوات، نتاج هذه البيوت التي تركت بصماتها في شخصياتنا، ربما من دون أن نحس بذلك، وغالباً من دون أن نعيه.
حرر في: 01/10/2015