هذا سؤال مهم بات مطروحاً هذه اﻻيام وبشكل سافر، وتحديداً في كل من تونس أولاً، ومصر ثانياً، وهما البلدان اللذان زرتهما على التوالي مؤخراً، ووجدت في الأولى نقاشاً وتحليلات واعتراضات وحركات لمؤسسات مجتمع مدني وقوى وطنية واحزاب ونقابات مهنية حول مابات يعرف بقانون المصالحة الاقتصادية، ومن بينها حركة «مانيش مسامح» في دلالة على رفض المشروع المطروح من مؤسسة الرئاسة الذي يقضي بالتخلي عن الملاحقة القضائية لرجال الاعمال وكبار المسؤولين المتورطين فى جرائم فساد مقابل تخليهم عن جزء من أموالهم للدولة.
رقعة الرفض الشعبي لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذى طرحته الرئاسة التونسية والمقرر عرضه على مجلس النواب للمصادقة عليه كان واضحا انها واسعة، لم يكن هذا الصدى مفاجئاً، فردود أفعال تلك الأطراف لا تدع مجالاً للشك على وجود قناعة بان المشروع محاولة مشبوهة لمجازاة حفنة من الفاسدين على سرقتهم لأموال الشعب، ومنحهم صكوك الغفران، وهناك من عده محاولة يائسة لتبييض سرقات لا تغتفر، محاولة تطرح في موضع غير موضع وفي توقيت غير قابل للهضم..!!، وبدا لافتاً وغريباً في آن انه لم يظهر من يشرح ويقنع الناس بالمشروع وينظر له ويسوقه لدى الرأي العام، بل ظهرت قيادات كبيرة في عدة احزاب وهي تتبرأ بأدنى صلة بهذا المشروع، وترى بان على الرئيس الذي يقف وراء المشروع ان ينجحه بدعم القوى المساندة له، وكأن لسان حالها يقول: «اذهب انت وقانونك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون»، وهناك من ابدى خشية من ان يكون قانون الطوارئ المفروض حالياً الملجأ الأخير لتمرير مشروع القانون بذريعة انه يسعى الى إنعاش الاقتصاد وتنمية مناطق البلاد..!!، ولا احد يعلم حتى الآن على الأقل كيف سيطوى هذا الملف !!
ذلك يحدث فى تونس اما في مصر فثمة جدل أثير حول تعديلات لقانون الاجراءات الجنائية سمحت للدولة بالتصالح في الجرائم المتعلقة بالمال العام من قبل رجال الاعمال او ممن ليست لهم صفة وظيفية بالدولة، ولا ينطبق عليهم صفة «الموظفين العموم»، إذ ان كل موظف عمومي طلب لنفسه او لغيره عطية او هدية لأداء عمل من الاعمال المكلف بها او للامتنإع عنها يصبح مرتشياً ولا تصالح في هذه الجرائم، كما انها لا تسقط باستقالة الموظف العام او تركه الخدمة، ولكن هذا الجدل طغى عليه ملف ظل مسكوتاً عنه لسنوات وسنوات، هو الملف المتضخم للفساد، وجاء إلقاء القبض على وزير الزراعة وفى قلب ميدان التحرير لاتهامه بالضلوع فى الفساد بوزارته، ليظهر ما وصفه البعض بانه اول طلقة حرب حقيقية تخوضها الدولة ضد الفساد، وظهرت عناوين بعض الصحف مبشرة بان «حرب الرئاسة بدأت باصطياد الكبار»، الوزير المقبوض عليه حصل على هدايا وعقارات مقابل اجراءات تمليك مئات الأفدنة بالمخالفة للقانون فيما عرف إعلامياً بقضية الفساد الكبرى، وفى هذه القضية كرت سبحة الاشتباه وطالت وزراء ومسؤولين آخرين، وكان لافتاً ذلك التزامن بين هذه القضية مع القبض على برلماني سابق رئيس جمعية مكافحة الفساد متورطاً في رشوة واستغلال نفوذ، بل الأمر ذهب الى ابعد من ذلك حين أدرج اسمه في قوائم أبرز المتورطين في قضايا فساد..!!
واذا كان من غير الواضح الى اين ستنتهي هذه القضية او تلك، الا انه يمكن القول ان من اعاجيب القضية الأولى المثيرة لكثير من علامات التعجب والاستفهام هو ان جزءا من الرشوة موضوع القضية كانت بمثابة تمويل ضخم وكبير للحج، حج لأفراد اسر المتهمين بتلقي الرشوة، وهو الأمر الذي فتح الباب لتساؤلات عن التدين حين يصبح فارغاً عن جوهره ومحتواه، وكيفية تقبل ان يكون الحج بأموال رشوة او كيف سيكون الحج مقبولاً وهو ممول بالرشوة..!!
نعود الى السؤال: هل يمكن القبول بتبييض الفساد من اجل إنقاذ الاقتصاد..؟!، استطيع رداً على هذا السؤال ان اجتهد وأقول بان من يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات وهى طائرة يمكن ان يخلص الى إجابة بان الناس في اي مجتمع والذين يعيشون وهم مكرهين على أوجه فساد تعطل التقدم والتنمية والاستثمار، لا يمكن ان يتقبلوا او يقبلوا فساداً من اي نوع وبأي مستوى يجثم على صدورهم وأنفاسهم، او يمرر الفساد تحت اي تسوية او ذريعة وكأن شيئاً لم يكن، ولا يمكن ان يتقبل الناس من عاثوا فساداً وهم يتحولون فجأة وغصباً عنهم من «علية القوم» ومواطنين صالحين، يكفي متابعة الرفض الشعبي لمحاولة تبييض الفساد فى تونس ومصر، وهو موقف تابعناه قبل ذلك في العراق ولبنان، وهو حتماً لن يختلف عن باقي دول المنطقة العربية التي هي اليوم بحاجة ملحة الى حملة عاصفة على الفساد.
الفساد آفة ينخر المجتمعات، وحماية اي مجتمع من الفساد لا تضمنه غير الارادة وتجاوز الالاعيب والارتجالات العابرة، والشعارات الكاذبة، والخطب الرنانة، وكل مايؤدي الى غفوة تنافس غفوة اهل الكهف، تضمنه ايضاً الشفافية والمحاسبة والديمقراطية التي تتجلى في الرقابة الشعبية وممارسة حق المساءلة وحرية النقد والتعبير، وعدم جعل اي كان مهما كان مقامه ومنصبه فوق القانون او المساءلة.. لابد ان يدفع ثمناً فادحاً كل من سرق او اختلس او فسد او أفسد، او طوع نفوذه لخدمة مصالح خاصة.. من دون ان ننسى دور سيطرة الادارة الرخوة، وسوء اختيار القيادات، وتركز السلطات والصلاحيات في يد أشخاص غير مؤهلين، وضعف الجزاء القانوني، وغل يد سلطة القانون بما يحقق الردع العام، ذلك يوسع قاعدة وعملاء الفساد، ويجعل نمو الفساد يصبح امراً طبيعياً وانتشاره يصبح بلا عائق، هل نسينا ان ثورات الشعوب قامت اصلاً لتخليص البلدان من الفساد والفاسدين.
حرر في: 22 سبتمبر 2015