لم يكن أحد ليتصور أن يأتي يوم من الأيام وتتحول العلاقات التاريخية القائمة بين الشعبين الروسي والأوكراني إلى علاقات تتسم بالعداء والبغضاء.. مثلما نتذكر جميعاً تدهور العلاقات التي كانت سائدة بين الشعبين الشقيقين الكويتي والعراقي نتيجة لجريمة الغزو العراقي لدولة الكويت الشقيقة التي نفذها نظام صدام حسين يوم الثاني من أغسطس/آب عام 1990…
لقد عدت مؤخراً من أوكرانيا التي أزعم أنني أعرف أهلها جيداً، وأعرف طبيعة العلاقات وعمق الروابط الاجتماعية والأسرية والنفسية التي تربط الأوكرانيين بالروس، والتي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ المشترك للبلدين والشعبين الجارين والمتداخلين. إذ تذكر المصادر التاريخية أن أجزاء كبيرة من ما كان يسمى «كيفسكايا روس» كانت داخلة ضمن الدولة الروسية الإقطاعية القديمة. و«كيفسكايا روس» كانت آنذاك عبارة عن فيدرالية مرنة للقبائل السلافية الشرقية في أوروبا قامت خلال الفترة بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين.
وتعتبر الشعوب الحالية لبيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا وروسيا، ورثة تلك الحضارة. في القرن الرابع عشر الميلادي وقعت «كيفسكايا روس» تحت سيطرة إمارة ليتوانيا العظمى التي ضمت أراضي البلدان الحالية روسيا البيضاء وليتوانيا وأجزاء من أوكرانيا وروسيا ولاتفيا وبولندا وأستونيا ومالدافيا. وقد أسفرت حرب التحرير التي قادها بغدان خميلنيسكي عن تحرير أوكرانيا وروسيا البيضاء واتحادهما مع روسيا في عام 1654. وحتى الاتحاد الفيدرالي الذي أنشأته إمارة ليتوانيا العظمى مع مملكة بولندا في عام 1569 لتحدي الإمبراطورية الروسية، انتهى في عام 1795 نتيجة لتقسيم أراضي هذه الفيدرالية بين روسيا وبروسيا والنمسا.
في عهد القيصرة الروسية ألكسندرا الأولى (1801-1825)، كان النفوذ الروسي في أوكرانيا يؤمنه الجيش والإدارة الحكومية، لكن القيصر نكولاي استبدل في عهده (1825-1855) ذلك بإخضاع كل أوكرانيا للإدارة المركزية الروسية، حتى إن اسم أوكرانيا لم يكن يرد استخدامه إلا نادراً.
وبعد ثورة 1905، تمت إعادة الاعتبار للغة الأوكرانية، وتم السماح بتشكيل مجموعة أوكرانية برلمانية من نحو 50 نائباً في برلمان الإمبراطورية الروسية.
بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا في عام 1917، رفض القوميون الأوكرانيون دخول قوات الثورة (نواة الجيش الأحمر السوفييتي) أراضي أوكرانيا وحدثت مواجهات بين الطرفين، أعلن القوميون الأوكرانيون بعدها قيام جمهورية أوكرانيا الشعبية وانفصالها تماماً عن روسيا مع الإبقاء على الروابط معها. ولكن هذه الجمهورية سرعان ما سقطت في عام 1920 وتمت إعادة ضم أوكرانيا إلى روسيا فيما تم في العام التالي وتحديداً في 18 مارس/آذار 1921 إلحاق الجزء الغربي منها (منطقة ما وراء الكربات) ببولندا، وذلك بموجب اتفاق إنهاء الحرب السوفييتية البولندية التي استمرت من 1919 إلى 1921، والذي وقعت عليه كل من جمهورية روسيا السوفييتية الفيدرالية الاشتراكية وجمهورية أوكرانيا السوفييتية الاشتراكية من جانب وبولندا من جانب آخر.
ولكن ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية في عام 1945 التي انتصر فيها الحلفاء وبضمنهم الاتحاد السوفييتي، حتى تمت استعادة منطقة غرب أوكرانيا وإعادة ضمها لأوكرانيا. على أن تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991 قد فتح الباب من جديد أمام انفصال أوكرانيا عن روسيا. بل إن خطوات الانفصال قد سبقت التفكك الرسمي للدولة السوفييتية. حيث أعلن في 24 أغسطس/آب 1991 استقلال أوكرانيا وإعلانها جمهورية ذات سيادة.
كما تلاحظون، هناك وطأة قرون من العلاقة غير المستقرة المشوبة بالكثير من النعرات القومية، الانفصالية والانعزالية، غير المتوازية، المغذاة بخليط من مشاعر الغبن والإلحاق القسري. ومن نافلة القول إن هناك بالتأكيد حساسيات قومية وعقائدية وجهوية في كل المجتمعات العالمية. وهو حصاد تاريخنا الإنساني بحلوه ومره على أي حال. وهذه الحساسيات تطفو وتخبو على فترات زمنية متباعدة، تمليها في معظم الأحيان أحوال ضيق العيش والتكالب على مصادره، وفي بعض الأحيان تمليها عوامل خارجية تتصل بالصراعات الدولية التي لا تستبعد حلبته أي أداة مؤثرة ومرجحة للكفة ومنها العمل بوسائل شتى لإثارة الحساسيات الدينية والإثنية والقومية، وهو سلاح تجيد أجهزة المخابرات الغربية وواجهاتها الإعلامية استخدامه بكثرة، خصوصاً في الأوقات التي تشعر فيها بحدوث تراجع في قدرات بلدانها الاقتصادية التأثيرية وتنافسيتها. وما يلفت أن أجهزة الاستخبارات الصينية والروسية تعزف عن اللجوء إلى هذا السلاح في صراع النفوذ الذي تخوضه كل من الصين وروسيا مع الغرب، إلا أنها تركز عوضاً عن ذلك، بصورة أساسية ومتجاسرة، على سرقة المعلومات الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية.
في الأزمة المتفاقمة بين روسيا وأوكرانيا، والتي وصلت ذروتها إلى نشوب أعمال حربية نتج عنها خسارة أوكرانيا لأجزاء من أراضيها وبروز أزمة لاجئين ومشردين لدى طرفي النزاع الأصيلين، روسيا وأوكرانيا، لاسيما أوكرانيا التي شهدت مدنها عمليات نزوح جماعية للعائلات التي تضررت في مناطق النزاع، وعطفاً على مسألة الحساسيات والنعرات التي ظهرت خصوصاً لدى الأوكرانيين في أعقاب استقلال الجمهوريات الخمس عشرة، التي كانت تأتلف الاتحاد السوفييتي، عن بعضها البعض، فواقع الحال المستند إلى معايشة لصيقة يؤكد أن الأوكرانيين لم يكونوا إبان العهد السوفييتي في وارد الشعور بالغبن أو التهميش، مثلما أنهم لم يظهروا أي نزعات قومية انفصالية أو ضغائن ضد الروس كما كان حال التشيكيين والهنغاريين على سبيل المثال. فلقد كان وضع أوكرانيا مميزاً داخل الاتحاد السوفييتي، إذ كانت تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد روسيا. فقد كانت جمهورية لها علمها ولغتها وسيطرتها على مواردها، ولها تمثيل أيضاً في الأمم المتحدة شأنها شأن روسيا وروسيا البيضاء.
وبرغم عدم توصل الطرفين الأوكراني والروسي حتى الآن إلى اتفاق نهائي ينهي حالة الحرب والعداء بين الجانبين في المناطق الحدودية، فلا وجود لمزاج معادٍ للروس في أوكرانيا، إذا ما استثنينا وسائل الإعلام الأوكرانية الحكومية وقسم من الطبقة السياسية ذات التشبيك المصلحي المعقد مع أسواق روسيا وأسواق أوروبا. ومع ذلك فإن الاتجاه نحو تعزيز وتعميم استخدام اللغة الأوكرانية على حساب اللغة الروسية في العلاقات الرسمية وفي الحياة العامة، هو اتجاه قوي وواضح، وأن الجيل الأوكراني الجديد سوف لن يتحدث اللغة الروسية كلغة شقيقة موازية للغة الأوكرانية الأم، كما كانت الأجيال السابقة. وهي سياسة ممنهجة تتبعها السلطة الحالية في كييف الموالية للغرب بصورة سافرة كيداً ونكاية بالجارة روسيا التي كانت حتى الأمس القريب شقيقة.
حرر في: 18/09/2015