تحدثنا عن ارتباط الطائفية بالفساد، وخلصنا الى انها احد أوجه الفساد الفاقع، وانه لا يمكن فصل احدهما عن الآخر .. ينامان فى مخدع واحد وينجبان ما يشرع السرقة والرشوة والهدر المالي والمنافع وعقد الصفقات والمشاريع المضروبة التي لا تمت برائحة طيبة للمنفعة العامة، ويفتح الممرات الحرة المنظمة التي تجعل المجتمعات التي ينخرها الفساد اكثر تفككاً وانفلاتاً وتسليماً للمشيئة الطائفية بدرجة فائقة الفجاجة، ومن لاحظ وعاين وتابع المشاكل، كل المشاكل من أي مستوى ، وفي أي وزن، التي ظهرت الى العلن، ورأى الناس في لبنان والعراق والذين ساروا في اﻻيام الماضية في الساحات ومشوا وراء همومهم وأوجاعهم وانتقالهم من وضع سيئ الى وضع أسوأ، ويتأمل الشعارات التي رفعت، يكتشف او يزداد قناعة بهذا الارتباط بين الطائفية والفساد ..!!
اليوم ، نعاود الحديث عن الفساد ، ولكن من زاوية اخرى نحسب انها تمثل وجهاً اخر من أوجه هذه الآفة التي لها قدرة فائقة على التناسل وطاقة مذهلة على الظهور بصور وأوجه مختلفة، وكم هو بالغ السوء ان نجد من يلعن الفساد ويهجوه ويناهضه ويظهر فى صورة المحارب له، فيما هو واقعاً ينام في مخدع الفساد، ويتحالف معه من الباطن، ويجعله يسرح ويمرح كيفما يشاء، والنتيجة حكايات غريبة، قد تكون مسلية، لكن مع الأسف تتخللها فصول من الكآبة والحزن والأسى وحتى القرف.
الوجه الآخر الذي نتناوله اليوم كأحد وجوه ومشتقات الفساد، يدخل في زاوية ترتبط بالإدارة والمسؤولية، الادارة عرفاً تعني بتأمين حاجات الناس ومعاملاتهم، واذا كانت الادارة تفتقد الكفاءة، جامدة فى بنيتها، معقدة في تنظيمها، مسرفة في أكلافها، غير واضحة في تعاملاتها ، مقيدة في حركتها، تتقيد بالروتين والبيروقراطية، جامدة ومنغلقة، ترفض التغيير والتحديث الحقيقي وتتمسك بالشكليات وبالاستراتيجيات التي لا تحقق شيئاً على ارض الواقع، لا تتحرك ولا تنجز شيئاً الا بتعليمات وتوجيهات، هىي ادارة عقيمة وعبء على المواطن والوطن والاقتصاد، هي ادارة عاجزة عن معالجة المعضلات ومواجهة التحديات وتفتح أبواباً لصور شتى من صور الفساد ..!
والمسؤول عرفاً، هو الذي يفترض ان يقوم بواجباته المؤتمن عليها على خير وجه وبشكل يحقق افضل النتائج، ان اخطأ يصحح أخطاءه، لا يمارس عملية الهروب الى الامام، والمسؤول الذي لا ينجز، يكتفي بالتصريحات وبالوعود والنوايا الطيبة، لا يؤدي مهام عمله كما يجب، ويعجز عن اتخاذ القرار في الوقت المناسب، او ينتظر كل قرار من فوق، ولا يمتلك رؤية، ولا منهجية إدارية فاعلة، يكرس الشللية، ويعيق إعلاء قيم الجدارة والعلم والنزاهة، ولا يتواصل مع الناس او يفتح مكتبه او مجلسه الا لدواعي البهرجة الاعلامية و»الشو الاعلامي»، وتتلاحق نقاط السلبية في أدائه، هو مسؤول في أحسن الأحوال وافضل التفسيرات مشروع فساد، او مشارك بوعي او بدون وعي في صنع الفساد وتدعيم أركانه.
الفساد لا يعني فقط الرشوة، ولا الهدر، ولا التجاوزات المالية او الإدارية، كتلك التي تكشف عنها دون جدوى تقارير تلو تقارير لديوان الرقابة المالية والادارية، بل يعني أيضاً المسؤول الفاشل، الفاشل يخطط دوماً للفشل، ويعني أيضاً العاجز عن ابتكار حلول لمشاكل ومطالب الناس، والمتنصل من مسؤولياته، او الذي تعود ان يرميها على غيره، او تعود ان يكتفي بعرض العقبات التي حالت دون تنفيذ خططه، او تعود ان يعرض على الناس وعوداً ومشاريع واستراتيجيات لا احد يعلم مصيرها ، ولا احد يحاسبه عليها، والمسؤول الذي ألف ان يتخذ مواقف سلبية من اي خطوة إصلاحية حقيقية إما خوفاً على مصالح مختبئة في ثنايا نظام إداري ضعيف، وإما حماية لسلطات قائمة على الالتباس وغياب الشفافية، والمسؤول الذي يفسح المجال لهيمنة جمعية من الجمعيات، او تيار من التيارات السياسية او الدينية او الطائفية او المذهبية التي ينتمي إليها ويجعلها تسيطر على مفاصل العمل والقرار هنا او هناك، والمسؤول الذي ينتمي الى عقلية لا تفهم الادارة كخدمة عامة، هذا المسؤول لاعب رئيسي في توطين قيم وسلوكيات ولوبيات الفساد، وفي تشكيل فرق دوري الفساد.
هل يمكن ان تتقدم وتتطور الدول على يد مثل هذه النوعية من المسؤولين ..؟ الا يعني وجود هؤلاء تعطيلاً للقدرات التي نملكها، وإلغاء للاحتمالات المشرقة التي يمكن ان تصادفنا وتمر في طريقنا، الا نعي ان أي مجتمع يبقى على هؤلاء يعني انه يخل بموازين المسؤولية مما يسمح بفتح أبواب للفساد والتجاوزات والهدر، وبناء أعمدة رئيسية لتغلغل الفساد في مفاصل المجتمعات، والدول، وهذا ملف لا نريد تضخيمه بحيث نصل الى اليأس، ولا نريد تبسيطه بحيث نصل الى الخيبة، ولكنه أعمق مما نتصور، واكبر من ان يوكل الى أطراف او أشخاص يفترض ان يكونوا اول من يقتلعهم اي تحديث او تطوير او إصلاح، حتى وان بدوا مسايرين ومواكبين في المظهر، لأنهم يماطلون ويعترضون في الجوهر، وهذا أمر واضح يشار اليه دونما عناء ..!!
تابعوا الأسس التي نهضت بأمم وشعوب، وتعلموا من دروسها .. تعلموا منها فعلياً، وكل ما نرجوه ونتمناه الا يكون التوق الى تعلم هذه الدروس واستيعابها مجرد حلم ..!!
حرر في: 15 سبتمبر 2015