“طلعت ريحتكم”.. «بدنا نحاسب».. «بدنا نعيش» .. «بدنا حقوقنا».. شعارات تبناها مواطنون كثر، وقطاعات عريضة من قوى المجتمع المدني في لبنان، في تحرك شعبي غير مسبوق، وفي مشهد توحد فيه الجميع وتحت العلم اللبناني، لم تعد قضيتهم محصورة في ملف النفايات، او مطلب من مطالب الحياة المعيشية، بل باتت القضية ضد واقع ينخره الفساد، وضد الفقر، والحرمان، وضد طبقة من السياسيين اصبح عبؤها على الناس ثقيلاً، طبقة «عشعشت» في مواقعها، ومنابرها، تتلون في الشكل والمضمون برايات الاحزاب والزعامات والمصالح والحركات السياسية والطائفية، لم تفهم التغيير، بل وقفت ضده، اختلقت أزمات تلو أزمات، جعلتها أزمات مفتوحة يمدد لها حتى إشعار آخر، والحسابات والألاعيب والمحصلات والإملاءات طائفية ومذهبية ومصلحية بالمقام الاول تفرض من الداخل او الخارج، وكأن ثمة من يدفع الى الإغراق في الفساد، والصراعات الداخلية والمناوشات الطائفية والمذهبية، وبوجه عام الى وضع لا يطاق..!!
الحملات التي نظمت، والشعارات التي رفعت، والكاريكاتورات التى رسمت، والتعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي في الصحافة الورقية والإلكترونية، في التعليقات الساخرة، في أحاديث الناس، كلها استخدمت كلمة «النفايات» و«الزبالة» كمدخل لما يعتلج لدى أناس أرادوا ان يعيشوا، يعيشوا بكرامة، قلوبهم «مليانة» من قهر وفقر وبطالة واوجاع، واستياء وغضب لواقع مأزوم، ولحياة سياسية مكبلة بشكل فاقع، ولأزمات مستفحلة دون علاج، ولتطلعات وأحلام طمرتها أطنان من الانقسامات والمنازلات والتوازنات والاجندات والمساكنات القسرية، والمواقف المتخابثة، والمواربات، وشرك الشروط والشروط المضادة، وشارع مطيف سياسياً او مسيس طائفياً، كل ذلك عطل شؤون الدولة، وصرف النظر عن هموم الناس وما اكثرها، وحول كل شأن وطني الى شأن طائفي، والسبب تجار السياسة ومدعي الوطنية وأرباب الفساد وحماة الفاسدين.. هؤلاء الذين بات كل همهم ان يكون الناس محكومين بنظام طائفي مؤبد، يؤبد معه الفساد، ولذلك ليس غريباً ان يندفع هؤلاء بتلقائية، لم تحركهم جهة او سفارة او حزب او غريزة طائفية، لذلك أرعبوا واربكوا الطبقة السياسية وزعماء الطوائف، ولم يكن غريباً او مفاجئاً ان نشهد من ظهر لنا في صورة الداعين الى علاج الطائفية، ولكننا نكتشف بانها دعوة تحمل في ثناياها المزيد من الطائفية !
ما يحدث فى لبنان، وجدناه يحدث فى العراق، وربما فى بلدان عربية اخرى، في الأولى على خلفية روائح النفايات، وفي الثانية على خلفية انقطاع الكهرباء، والدوافع والمطالب والشعارات ذاتها تقريباً، والمحور هو الفساد الذي غمر بحنانه وعطفه وبطرق واساليب متقاربة ومتشابهة قطاعا واسعا من السياسيين الفاسدين والمتعطشين الى المناصب والمكاسب والساعين الى المزيد منها، وزارعي الفتن المنتشرين في كل الربوع، والذين ظهر منهم هنا وهناك من بات لا هم له الا ان يغرس شوكة في خاصرة التحرك الشعبي العفوي وتشويه صورته، هؤلاء فضائحهم لم تعد محصورة في الكواليس، باتوا يرتكبونها بكل جسارة وشجاعة، لا يهمهم برلمان يفترض انه يراقب ويسائل لأنه جزء من منظومة تلك التركيبة المهترئة، او أحزاب يعول عليها لأنها أحزاب طائفية، بل مذهبية، عاجزة ان تتحول الى أحزاب وطنية، ولا تعنيهم أجهزة رقابية لأنهم جعلوا وجودها كعدمه، ولا مؤسسات مجتمع مدني لانهم كبلوها وقيدوها وجعلوها او جعلوا معظمها على الأقل منخرطة فى منزلقات التفتت، او كيانات تمثل طوائف حتى وان بدت محاولة «لملمة» حصاد ما، فانه بالنهاية حصاد يرجعها الى بيت الطاعة عن سابق تصور وتصميم..!!، ولكن يبقى الجانب المثير للدهشة هنا وهناك، هو مشهد الحشود التي تجمع كل تلاوين المجتمع، والمناطق، والفئات، والأطياف، والطبقات، ذابت فجأة كل انقساماتها الطائفية الحادة، سقطت تحت وطأة المعاناة، والانتهاك المزمن لحقوق الانسان، والعدالة الاجتماعية، وقصور طبقات سياسية مترهلة وفاسدة، انه حدث ليس عابراً، او عادياً خاصة وسط ظروف المنطقة الراهنة.
الكلام والحديث والتحليل يؤدي ضمن ما يؤدي الى خلاصة جوهرية لا يمكن ان تخفى على ذوي الفطنة والبصيرة، وهي ان الطائفية فساد، فساد له مبرراته عند الطائفيين وأربابهم، هؤلاء هم الذين جعلوا كل أمر وشأن ومصلحة متماشية مع قيم الطوائفيات المستأذبة، وهي القيم التى تجعل الديمقراطية لا قيمة لها، او في احسن الاحوال تحول الديمقراطية أداة لادارة الفساد او التفرج عليه او البحث عنه، او تتحدث عن فساد ولكن من دون فاسدين، ولذا لا يمكن للطائفي ان يكون ديمقراطياً، هو يمارس نوعاً من انواع العنصرية التى لا تحترم إنسانية الانسان، تربط كل شيء بانتماء الانسان الديني والطائفي والمذهبي، واصله وفصله وحسبه ونسبه، كما ان هذه القيم هي التي تحشد الرأي العام الطائفي لحماية فاسدين والدفاع عنهم، او تجعل الطائفية نتاج منافع ومصالح ومكاسب لفاسدين يدافعون عنها، ويجعلونها مأوى او عرشاً، بقدر ما تجعل رجال دين وأصحاب منابر يحصرون مطالبهم بتأمين حصتهم الطائفية من مراكز ومواقع ومكاسب، تبرم الصفقات المشبوهة، او على الأقل تصمت عن ارتكابات حاشيتها والمحسوبين عليها والمنتمين الى ملتها، المحاصصات الطائفية كمثال ليس الا، تجعل كل فاسد يأخذ حصته من حصيلة الفساد ويتصرف بها، الطائفة تحمى مفسديها، والمنتفعين منها.. انهم يجعلون الفساد تبيضاً للطائفية، تماماً كما يفعل غاسلوا الاموال، كلاهما الفساد والطائفية، مطية للآخر، يكملان بعضهما البعض، في الفكر والتطبيق، في السياسة والمنطق، في اساس البناء، فى المقاول والمقاول من الباطن والمتعهد، فى كل شيء، الأخلاق في قفص اتهام ومرجعية الثواب والعقاب وشعارات النزاهة وما الى ذلك لا تخرج عن كونها مجرد كلام مراوغ متكرر يحتاج الى قدر كبير من المصداقية لا يضمن وجودها، كلام يعجز عن الاضطلاع بمهمة النهوض بالواقع.
نحتاج في بلداننا العربية، الى ثورة ضد هذا الخزان والمخزون السخي من الفساد، وحرب على الطائفية السياسية والدينية، ومواجهة خطاب الكراهية، بالتوازي مع الحرب على الإرهاب، حتى ننجح فى دحره، وهذه هى معركتنا الكبرى حتى آخر الضمير..!
حرر في: 8 سبتمبر 2015