بالكاد كان فرانز فانون في السابعة والعشرين من عمره حين وضع كتابه المهم والمُلهم: «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء»، فالشاب الآتي من مورتينيك سيكتشف بشرته السمراء في فرنسا التي ولّدت لديه شعوراً بالغربة في مجتمع أبيض.
سيتعزز هذا الشعور لديه فيما بعد أثناء عمله في الجزائر مديراً لمستشفى الأمراض العقلية مدة نضال حركة التحرر الوطني الجزائرية من أجل الاستقلال ، ما حمله على الاستقالة من منصبه، حين شعر بأن المعاملة المختلفة له كونه آتياً من الكاريبي نموذج لمعاملة ذوي البشرة السمراء مثله، فاستنتج أن الأمراض النفسية التي يعانيها مرضاه الجزائريون آتية من معاملة المستعمر لهم.
كان المستعمرون يتصرفون على أنهم حاملو هوية أرقى من هوية أبناء الشعب الذي يستعمرونه. ساعتها وجد فانون أن موقعه الطبيعي هو مع المناضلين الجزائريين لا مع المستعمرين الفرنسيين، حيث وضع كتابه المهم الآخر: «المعذبون في الأرض».
سيغدو «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» مرجعاً تتجدد الحاجة إليه عبر الزمن، حيث عاد مجدداً إلى الصدارة بفعل تنامي الاهتمام بدراسات ما بعد الكولونيالية. وسيكون لافتاً أن مفكراً آخر آتياً من العالم النامي هو إدوارد سعيد هو من أبرز من أعادوا لفت الأنظار إلى دراسات فرانز فانون.
وجد إدوارد سعيد أمراً مشابهاً لسيرته في سيرة فانون، فهو الآخر آت من بيئة شرقية ليعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ويدرك المعاناة الناجمة عن وقوف المرء على تخوم أكثر من هوية، ما ينجم عنه نتائج متضادة، فمن جهة يكون هذا الموقع مصدر ثراء للشخصية، لتعدد المصادر الثقافية واللغوية التي لا تتوفر لمن يولدون بهوية واحدة، ومن جهة أخرى يمكن لذلك أن يكون مصدر شعور بالمنفى الداخلي، حين يشعر متعددو أو ثنائيو الهوية بالغربة إزاء بيئة المجتمعات الآتين منها، كونهم انفصلوا، فيزيائياً، عنها، وبيئة المجتمعات الآتين إليها كونهم يحملون بشرة أو ملامح مختلفة، أو تكويناً ثقافياً مغايراً.
وللسبب نفسه، ليس غريباً اهتمام إدوارد سعيد بحياة عالم النفس الشهير فرويد، حيث كان يلقي كل سنة كلمة في المتحف الذي يحمل اسمه في فيينا وعنه كتب كتابه المهم «فرويد وغير الأوروبيين»، فهو هاجر إلى بريطانيا بعد استيلاء النازية على موطنه النمسا ما جعله يجرب فكرة المنفى في معناها المباشر، ليضاف إلى شعوره، قبل ذلك، بالمنفى الداخلي وهو في النمسا كونه يتحدر من أقلية.
حرر في: 10/09/2015