في العصر الجاهلي هجا الشاعر طرفة بن العبد الملك عمرو بن هند، فكتب إلى عامله بالبحرين بأن يجهز عليه، فكان أن استدرجه وفصد كاحله وقتله على نحو مرعب. والشيء نفسه فعله النعمان بن المنذر مع عبيد بن الأبرص، وكان مصير الشعراء السود والصعاليك الحصار والعزل والخلع.
ويحفظ التاريخ كذلك أسماء خالدة ممن قالوا قولة الحق بوجه العسف من أمثال أبي ذر الغفاري وعروة بن ورد والشنفري ومالك بن الريب وأبو الأسود الدؤلي وابن حزم الأندلسي وسواهم، وكان نصيب الكثير من الفلاسفة وأهل الفكر التشريد والسجن والقتل غيلة وظلماً، كما حدث مع غيلان الدمشقي والحلاج والسهروردي وغيرهم.
وفي التاريخ الحديث اضطهد الدكتور طه حسين وهوجم، وسواه واجه الكثير العديد من أشكال المضايقة والتشهير، لا بل والقتل.
لكن تاريخنا عرف كذلك لحظات من الازدهار والتقدم في المعارف وفي الفلسفة والإبداع، تلك اللحظات التي أدرك فيها أولو الأمر أن الحرية هي مناخ الإبداع والعلم. وينقل التاريخ أن الخليفة المأمون قرّب إليه الكثير من الجدليين والنظار وأهل المعرفة والفقه، وكان يجادلهم بنفسه، وأنتجت تلك اللحظة الذهبية الثراء الفكري في الحضارة العربية، لتستفيد منه أوروبا لصنع نهضتها، بعد أن دخل عالمنا العربي الإسلامي بياته الطويل.
نقول هذا الكلام عن العلاقة بين الفكر والحرية في زمننا »الداعشي« الأغبر هذا، وفي وقت تشتد فيه وطأة القيود على حرية التكفير، وتتعدد فيه مصادر السلطات التي تصادر حرية التفكير والمعتقد.
في السابق كان الحاكم هو من يعاقب المفكر أو المبدع إذا ما اختلف معه، أما اليوم فإن قوى فكرية واجتماعية وسياسية تمارس سلطة أشد من سلطة الحكومات، وتتوسل أساليب الضغط والابتزاز على من يختلف معها، وتجري العودة إلى نصوص روائية وقصصية وإبداعية مختلفة صدرت في أزمنة قديمة أو حديثة ليجري تصيد جمل وعبارات منها وعزلها عن سياقها ضمن النسيج الإبداعي والدعوة لمعاقبة أصحابها بحجة خدش الحياء العام.
إذا ما استمرت مثل هذه الموجات، فعلينا أن نجمع كل نسخ «ألف ليلة وليلة» من المكتبات والبيوت، وأن نفعل الشيء نفسه مع الشعر الغزلي الجميل في العهود الأموية والعباسية والأندلسية، ونلقي في مياه النيل بروايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس.
وكي لا نبلغ هذا المبلغ ما أحوجنا لصحوة العقل وصوت الحكمة وسداد الرأي، إنقاذاً لأنفسنا وثقافتنا.
حرر في: 03/09/2015